بدأت نقطة التَّحوِّل، وبداية البحث العلميّ المتجَرِّد عندما وقعتُ على قول للعالم المفسِّر أبي حيَّان الأندلسيّ المتوفَّى سنة 745هـ، في كتابه الكبير «البحر المحيط»، وكنت حينها أحقِّقُ جزءًا منه لنيل درجة «الماجستير» في «اللغة العربيَّة» في «جامعة دمشق»، يصف في قوله الشيخ «محيي الدِّين بن عربي» بكلام أوقع في قلبي الكثير من التَّساؤلات وإشارات التَّوقف التي لا بدَّ من إعادة النَّظر في منهجيِّة علميَّة لما أنا عليه، والتَّدقيق في ما نسمعه من علماء حاضرين، فقال أبو حيَّان: «لأن بعضهم نقل عنه أنّ الولي أفضل من النَّبي ، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم، ولابن العربيَّ الطَّائي كلام في الوليّ وفي غيره نعوذ بالله منه» انتهى. في حين أنَّ شيخنا يقدِّس كلَّ ما يقوله، فكانت نقطة الانطلاق عبر رحلة علميَّة منهجيَّة، وكان لا بدَّ من اتخاذ نهجٍ واضح لا أحيد عنه، حتى أخرج بخير القول والعمل، فاعتمدت المنهج التَّالي:

أولا: الاعتماد على النَّصِّ القرآني كقاعدة للتَّشريع والأحكام والحدود، دفعني إلى ذلك كثرة التَّأويلات في تفسير المفردة الواحدة أحيانًا على أكثر من عشرين وجهًا، وبعض رواتها من المشهورين كـ«قتادة»، و«عكرمة»، و«مجاهد»، و«الشّعبي»، و«ابن عباس» وغيرهم، وبنى الفُقهاء على أقوالهم مسائلهم الشَّرعيَّة، فاختلفوا فيها على اختلاف التَّفسير للقرآن، خاصَّة وأنَّ كثيرًا من أقوالهم تتعارض فيما بينها، بين مجيز ومانع لها، ويزعم كلُّ ذاهب بصحَّة قوله ورأيه، وأنَّه موافق لـ«لقرآن الكريم»، و«السنَّة النَّبويَّة»، وطرحت على نفسي سؤالا حينها: إذا كان المنبع واحدًا فلم الخلاف في الأقوال والأحكام؟!!

ونحن نعلم أنَّ تفسير «القرآن الكريم» قد أخذ منهجين درج عليه المفسّرون:

الأوَّل: التَّفسير بالمأثور، ويعتمد على النَّقل المتواتر عمَّا ورد من «الصَّحابة» و«التَّابعين» في تفسير مفردات وآيات «القرآن الكريم»، ولعلَّ تفسير «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» لمحمد بن جرير الطَّبري المتوفى سنة 301هـ من أقدم التَّفاسير التي وردتنا بالمأثور، وقد علمتُ أنَّ «الطَّبريّ» رحمه الله لما أقدم على تفسير «القرآن الكريم» قد نبَّه على أنَّه سيعتمد على كتب «بني إسرائيل» المتوفِّرة لديه، وقد أشار في مخطوطه إلى المواضع التي أخذ عنها من هذه الكتب السَّابقة، إلا أنَّ المحقق والطَّابع لم يشر إلى ذلك، فدخلت في متن تفسيره على أنَّها من السَّلف وليس ذلك بصحيح؛ بل هي من كتب «بني إسرائيل» كما أشار «الطَّبريّ» نفسه.

ولعلَّ أدلَّ دليل على ذلك ما يُعرف بقصَّة «الغرانيق» التي درج عليها من لم يتحقَّق فيما يصله ويكتفي بالجمع والنَّقل، وتفصيل هذه القصَّة كبير جدًا، يرى من نَقَلها أنَّ «رسول» الله صلى الله عليه قد سُحر، وألقى الشَّيطان على لسانه كلمات في الصَّلاة فيما يخصُّ الأصنام، فسجَدَ وسجد «الصَّحابة »خلفه، وقد أوردها «الطَّبريّ» عند تفسيره لقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) فقال: «قيل: إنَّ السَّبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ الشَّيطان كان ألقي على لسانه في بعض ما يتلوه ممَّا أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتمَّ به، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات.

ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فتمنَّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى»،  فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا بلغ: «أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى» ألقى عليه الشَّيطان كلمتين: «تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهنّ لترجى»، فتكلَّم بها. ثم مضى فقرأ السُّورة كلَّها. فسجد في آخر السُّورة، وسجد القوم جميعا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السُّجود. فرضوا بما تكلَّم به؛ وقالوا: قد عرفنا أنَّ الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكنَّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبًا، فنحن معك، قالا: فلمَّا أمسى أتاه جبرائيل عليه السَّلام، فعرض عليه السُّورة; فلمَّا بلغ الكلمتين اللَّتين ألقى الشَّيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افْتَرَيْتُ عَلى الله، وَقُلْتُ عَلى الله ما لَمْ يَقُلْ، فأوحى الله إليه: «وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ» ... إلى قوله: «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا». فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». قال: فسمع.

ومثل هذا القول لا يمكن قَبوله أو الأخذ به، سواء أكان ناقله ثقة، أم راويه أوثق؛ لأنَّه يتعارض مع نصِّ «القرآن الكريم الذي أعلمنا أنَّ «النَّبي» صلى الله عليه وسلم ليس بساحر، في قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }«الذاريات52»؛ بل إنَّ الله حذَّره بالعقاب إن جاء بما لم ينزِّله عليه، فقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }«الحاقة44-46». فكيف يمكن أن يُقبل ذلك؟! وهو لا ينطق إلا بما أوحاه الله إليه ؟!!

حتى إنَّ بعض الباحثين كالدَّكتور عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي في بحثه «التَّفسير بالرَّأي والأثر وأشهر كتب التَّفسير فيها» الذي نشرته مجلة «البحوث الإسلاميَّة» في عددها السَّابع ص200 -237، قد وَهِمَ أنَّ «الإسرائيليَّات» قد وقعت للمفسِّرين في مرحلة متأخِّرة وصفها بـ«المرحلة الرَّابعة» فقال: «في هذه المرحلة دُوِّنَ التَّفسير مجرَّداً عن الإِسناد واختلط الصَّحيح بالضَّعيف، ودخلت الإِسرائيليَّات والموضوعات في كتب التَّفسير، والذين جاؤوا بعد ذلك نقلوا هذه الأقوال على أنَّها صحيحة».

وجاء بعد «الطَّبريّ» «جلال الدِّين السّيوطيّ» المتوفّى سنة 911هـ في تفسيره المعروف باسم «الدرُّ المنثور في التَّفسير بالمأثور» ليكون الكتاب الثَّاني بعد تفسير «الطَّبريّ» الذي يعتمد أقوال الرُّواة وغيرهم في تفسير «القرآن الكريم» من حيث الجمع والنَّقل.

وخلال هذه الفترة بين عامي 310هـ إلى عام 911هـ أخذت التَّفاسير منهجًا آخر اعتمد على التَّفسير بالرَّأي، ولا ننكر وجود بعض التَّفاسير التي اعتمدت منهج المأثور كتفسير «معالم التَّنزيل» للحسين بن مسعود البغوي المتوفَّى سنة 516هـ، و«تفسير القرآن العظيم» لابن كثير المتوفَّى سنة 774هـ.

الثَّاني: التَّفسير بالرَّأي: ويعتمد أصحاب هذا المنهج في تفسيرهم على الرَّأيّ المستقلّ في الاستنتاج العقليّ والأحكام لآيات «القرآن الكريم»، بعيدًا عن أقوال الرُّواة السَّابقين، وإن كانوا يستأنسون بأقوالهم للاستدلال على المعنى المرجَّح والقريب، وفي غالب الأحيان لا يأخذون به لإقحام فكرهم ورأيهم في تفسير اللَّفظة القرآنيَّة، ولعلَّ ما يميِّز أهل هذا المنهج أنَّه قد سيطرت على أفكارهم المذهبيَّة التي كانوا عليها، فأخذوا يبثُّون أفكارها في تفاسيرهم، ومحاولة إسقاطها على ما يمكن أن يحمِّلوه لألفاظ القرآن الكريم، وخير مثال على ذلك تفسير «الكشاف عن حقائق غوامض التَّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأويل» لمحمود بن عمر الزمخشري  المتوفَّى سنة 538هـ، حيث اعتمد مذهب «المعتزلة» في تفسيره، وبثَّ أفكارها فيه، حتى ظنَّ القارئ أنَّها منه، وقد تعقَّبه في ذلك «أبو حيَّان الأندلسيّ» وكان من مذهب «أهل السُّنَّة والجماعة» فأظهر مواطن «الاعتزاليَّة» في تفسيره وكان يصفها بقوله «وهذه دسيسة اعتزال منه»، وكُتُبُ التَّفسير بالرأي كثيرة جدًا، كتفسير «مفاتيح الغيب» للرَّازي المتوفَّى سنة 606ه، وتفسير «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبيّ المتوفَّى سنة 671ه، وغير ذلك من التَّفاسير.

وبعد الاطّلاع المستفيض مما كتبه العلماء في التَّفسير بنوعيه، علمتُ أنَّ ثمَّة نقصًا لا بدَّ من استدراكه في منهج السَّابقين، وأنَّ خلافًا واقعًا لا بدَّ من الخروج منه، خاصَّة وأنَّ «القرآن الكريم» جاء للَّناس كافَّة، ولكلِّ زمان ومكان، فكانت بداية منهجي القَائم على «تفسير القُرآن بالقرآن».

وأسوق مثالين على هذا المنهج، ليتعرَّف القارئ أنَّ «القرآن» لا يحتاج اجتهادًا لرأي، أو الأخذ بمأثورٍ متناقض لنعلم ما فيه؛ بل يكفي التَّدبُّر في آياته، لنصل إلى المراد، وأوَّلهما: لفظة «شهداء» التي وردت في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }«النِّساء69». حيث ذهب ثلَّة من العلماء إلى أنَّ المعنى هو «المقتول» في سبيل الله، وما له من مكانة عليا في «الجنَّة»، وراحوا يستطردون في البناء على هذا الفهم الخاطئ، في حين أنَّنا لو تابعنا ألفاظ وآيات «القرآن الكريم» وبحثنا عن معنى هذه اللَّفظة فيه لوجدنا أنَّها لم تأت إلا بمعنى واحد وهو «الشهاد»ة التي هي «القول»، كما في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }«البقرة23»،  وقوله أيضًا: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }«البقرة133». وغير ذلك من الآيات.

ولمعرفة دلالة «الشهداء» في آية «النِّساء» السَّابقة، لوجدنا أنَّ «القرآن الكريم» قد بيَّن لنا معناها، ودلَّل لنا على المراد منها، إذ لا يمكن أن يكون المراد «المقتول» في سبيل الله؛ لأنَّنا لا نعلم حقيقة نيَّة «المقتول»، أو غايته من القتال، والدَّافع إليه، فهو في علم الغيب، لا يعلمه إلا الله، فكان لا بدَّ من معرفة المعنى الذي أراده الله في هذه الآية، وما هي المنزلة التي تقارب منزلة «الأنبياء» وتسبق منزلة «الصَّالحين»، الذين قرنهم الله في «الذين آمنوا» في أكثر من موضع في كتابه العزيز؟!! وبالبحث في «تفسير القرآن بالقرآن» نجد أنَّ الله عز وجلَّ قال: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }«آل عمران18».

وبالمقارنة مع الآية السَّابقة في «النِّساء»، ومقارنة الألفاظ التي وردت على صيغة «شهداء» لوجدنا أنَّ «أولي العلم» الذي شهدوا بوحدانيَّة الله أصحاب المنزلة التي أعدَّها الله لهم مع «النَّبيِّين» و«الصِّدِّيقين» وغيرهم، ويقوِّي ذلك عدم ورود لفظة «شهداء» أو ما في مبناها في «القرآن الكريم» تدلُّ على «المقتول» في سبيل الله.

أمَّا ثاني المثالين فهو ما اختلف فيه الفقهاء والعلماء من رجم «المحصن» حتى الموت، وما اضطَّربت فيه الأحاديث الواردة للدَّلالة عليه، فقد فعل «النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم ذلك عملاً بما في «التَّوراة» وقد ورد الخبر بذلك، وأنَّ فعله هذا في أكثر من موضع قد وقع قبل نزول «سورة النُّور» التي نَسخت هذا الحكم، ومن المعلوم أنَّ «القرآن »كلَّه محكم ينسخ «السُّنَّة النَّبويَّة»، ولا يمكن لـ«لسُّنَّة» أن تنسخ «القرآن» خلافًا لمذهب «الشَّافعيّ» الذي قال بذلك، ولم نجد واقعةً تدلُّ على ما ذهب إليه.

وعند العودة إلى حدِّ «الزِّنى» في «القرآن الكريم» نجد قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }«النُّور2». فسمَّى الله عزَّ وجل «الجلد» «عذابًا» في آخر الآية، وأن يشهد هذا العذاب «طائفة من المؤمنين».

وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }«النور6»، فـ«الزَّوجة» «محصن»، وإلا لما سمِّيت بذلك، وأنَّ الشَّاهد عليها زوجها، وعلى ما ذهب إليه طائفة من العلماء والجمهور فإنَّها تُرجم حتى الموت إن ثبت عليها ذلك، وشهادة زوجها بأربع شهادات.

لكنَّ المتتبِّع للآيات نفسها، باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يتَّضِح أنَّ ما ذهبوا إليه ليس بصحيح، وإن كانت تدعمه أقوالٌ مأثورة، أو أحاديث صحيحة متواترة، فـ«القرآن» أصل، ولا ينبغي لـ«لحديث» مخالفته، وما خالفه لا يُنْظر إليه وإن كان منسوبًا إلى «رسول» الله صلى الله عليه وسلم.

وتتمَّة الآيات السَّابقة التي تتحدَّث عن «الزِّنى» وحدِّه نجد قوله تعالى: {وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ }«النُّور8». فهذه الآية تشير إلى أنَّ «المحصنة» قد تشهد على زوجها أربع شهادات بأنَّه من الكاذبين فلا يقع عليها «الحدُّ»، وجوهر «الحدِّ»  في قوله تعالى: «العذاب»، و«ال» عهدية في «علم العربيَّة»، أي: أنَّ «العذاب» المشار إليه والذي هو حدُّها وتدفعه عن نفسها بأربع شهادات، قد سبق ذكره، ولو عدنا إلى الآيات السَّابقة لوجدنا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وصف «الجلد» كما أشرنا بـ«العذاب»، وأورده هناك نكرة، بينما هنا معرفة، وبما أنَّ «الجلد» سمَّاه الله عزَّ وجلَّ «عذابًا»، فقد ظهر أنَّ «العذاب» المراد بـ«المحصنة »هو «الجلد» وليس «الرَّجم »كما ذهب إلى ذلك كثير من العلماء والأئمَّة.

ويؤيِّد قولنا هذا أنَّ «العذاب» في «القرآن الكريم» لم يرد بمعنى «الموت» أبدًا، والذي هو نتيجة «الرَّجم»، وبالبحث في ألفاظ «القرآن الكريم» عن «العذاب» و«الموت» سنجد خير برهان على ما ذهبنا إليه، من ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }«البقرة49».

فـ«سوء العذاب» شيء كما في الآية و«الذَّبح» الذي هو «الموت» شيء آخر؛ لأنَّ ذبح الأولاد، واستحياء النّساء أمام الآباء هو من أسوأ العذاب الذي يتعرَّض له الآباء، فبان الفرق بين «العذاب» و«الموت»، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }«يس18». فلو كان «الرَّجم »حدًا لذكره الله عزَّ وجلَّ كما ذكر «الرَّجم» في هذه الآية، ولم يكن ليترك مصير الإنسان بالموت والحياة مقيَّدًا باجتهاد الإنسان نفسه. ال

وتجدر الإشارة إلى لطيفة من أجمل ما وجدت في سورة «النُّور» تتمثَّل في اسمها وفي تفسير أوَّلها، فـ«النُّور» هو الطَّريق الواضح المضاء بعيدًا عن الظَّلمة كما في قوله تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }«البقرة257»، وجاءت بعد سورة «المؤمنون» لتكون طريقًا واضحًا لهم في أعظم وأجلِّ قضايا «الحدود»، وسرّ العلاقة الأبديَّة بين «الذَّكر» و«الأنثى»، وقد قال الله تعالى في أولَّ آية فيها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }«النُّور1»، ومن المعلوم أنَّ جميع «السُّوَر» السَّابقة قد أنزلها الله، وفرض آياتها، وأنزل فيها آياتها البيِّنات، فلمَ كان هنا التخَّصيص والفرض والإيجاب لها؟!!