الإسلام دين الجهد والجهاد، دين العدة والعتاد، دين الوسطية والاعتدال، دين السعادة وهناء البال، دين يحفه شوك وقتاد، وتأتي فيه وهاد ونجاد، دين ينعم به السعداء، ويشقى فيه الأشقياء، دين قال عنه صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"، قال تعالى:

"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران:142). إن هناك نظامين لله تعالى؛ نظاماً ظاهراً، يراه الناس بأم أعينهم، ويمارسونه صباح مساء، ليل نهار، وهو ما يعرف في مصطلح القرآن الكريم بسُنة الله تعالى: "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (الأحزاب:38).

ونظاماً آخر باطناً، لا يراه الناس ولا يدركون أهميته، لكنه يسير سيره الطبيعي، وهو معروف في التعبير القرآني بقدرة الله تعالى، قال الله تعالى: "فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" (القلم:142). إن المؤمنين لا يعتمدون على النظام الظاهر، بل يعتمدون على النظام الباطن، هذا الذي يحرك عزائمهم، ويشحذ إيمانهم، ويملؤهم يقيناً وإخلاصاً، وشجاعةً وإقداماً، قال الله تعالى:

"وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (البقرة:142).

سنة الله الجارية

إن سنة الله تعالى جارية منذ الأزل إلى الأبد، لكن قدرة الله تعالى تظهر حيناً لآخر، إيذاناً بأن الله هو المحيي والمميت، والرافع والخافض، المعز والمذل، قال الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران:26).،

وقد ظهرت قدرة الله تعالى حينما خرجت الناقة من الجبل زمن ثمود، وظهرت قدرة الله تعالى حينما خرج إبراهيم عليه السلام من النار سالماً معافى، وظهرت قدرة الله تعالى حينما انثل حد سكين إبراهيم عليه السلام على حلقوم إسماعيل عليه السلام، وظهرت قدرة الله تعالى حينما نجا موسى عليه السلام وقومه، وغرق فرعون مع جنوده وعساكره، وظهرت قدرة الله تعالى حينما ولد عيسى عليه السلام من غير أب، وهو يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويخرج الموتى بإذن الله تعالى، قال الله تعالى:

"إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ" (الأنعام:142). هذا كله في زمن الأنبياء والرسل، وهناك فترة قد انمحت فيها آثار الدين الحنيف من الأرض، وانطمست تعاليمه انطماساً كلياً، وهي فترة لم يأت فيها نبي ولا رسول، وهي فترة العصر الجاهلي، أراد أبرهة الأشرم أن يهدم الكعبة المقدسة، بيت الله الحرام، ففكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ومكر مكراً، والله خير الماكرين، قال الله تعالى:

"أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ" (الفيل:142). (:). كم أراد الأعداء الألداء أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويهدموا صرح الإسلام بأسره، لكن جهودهم باءت بالفشل، ومساعيهم لم تصل إلى الأجل، وظل الدين الإسلامي ينور الكون بإشراقاته، ويبدد الظلمات بإضاءاته، قال الله تعالى: "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة:32).

ولا شك أن النصر الإلهي معقود بهذا الدين، ولن تغرب شمس الإسلام – بإذن الله – كائناً ما كان في مشارق الأرض ومغاربها – بشرط أن يكون الإيمان قوياً، والعمل الصالح مخلصاً لله – قال الله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً (النور:55).

نماذج مشرقة

وقد ظهرت نماذج ذلك في زمن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه حينما قاوم المرتدين، وقال قولته البليغة: والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطونه زمن النبي صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم. وفي زمن عقبة بن نافع الذي فتح المغرب الأقصى باسم الله تعالى قائلاً: اللهم رب محمد! والله لو أعلم أن وراء البحار أرضاً يابسةً لاقتحمت بفرسي هذا الموج الهائج لأنشر دينك في أقصى بقاع الأرض. وفي زمن البطل الإسلامي الكبير السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي استرد بيت الله المقدس من أيدي المغتصبين المجرمين.

وقد تجلت أمثلة ذلك أيام السلطان محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية، والذي صدق عليه أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش. وظهر نصر الله تعالى في كل زمان ومكان، وفي هذا العصر بالذات، فطوبى للأبطال المغاوير في تركيا الذين ضحوا بحياتهم في سبيل الله تعالى إبان الانقلاب العسكري الفاشل، وهنيئاً للقيادة الرشيدة العادلة التي وفرت أجواء الأمن والأمان لمواطنيها وسكانها، وسلام على تلك الأرواح الجريئة الباسلة التي وقفت أمام الدبابات والصواريخ والقنابل المدمرة.

ومعلوم أن دماء الشهداء لا تذهب هدراً، بل تنبت نباتاً حسناً، فتخضر حقول العالم الإسلامي اخضراراً كاملاً، بنصر الله ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم، يقول د. محمد إقبال: إن إقبال ليس قانطاً من تربته، فإذا سقيت أتت بحاصل كبير، قال الله تعالى: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ" (الأنبياء:106). وقال صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض، من عمل فيها عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب" (مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 5/134).

أما القروح والجروح، والإصابات والشهادات تلو الشهادات فقد قال الله تعالى عنها:

"إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *‏ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141).