منعنا الفيروس أن نلتقي بأحبابنا ونصل أرحامنا بالسفر إليهم، ومنعنا أن نصلي في المساجد جماعة وقتاً طويلاً، فنتفقد أحوال المصلين ومن تجمعنا بهم روابط الأخوة ورياض الصالحين. منعنا الفيروس أن نوصل صدقاتنا وزكواتنا إلى مستحقيها في وقتها. منعنا الفيروس أن نحج أو نعتمر ونشهد المناسك والمنافع وجماعة المسلمين. لقد منع أجسادنا، لكنه لم يمنع قلوبنا من عملها. إن أعمال القلوب آكد وأهم من أعمال الجوارح، فهي تميز المؤمن عن المنافق، وتفاضل بين المؤمنين بعضهم بعضاً بما في قلب كل منهم من أعمال، يقول ابن القيم: «إن لله على العبد عبوديتين؛ عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة، فله على قلبه عبودية وعلى لسانه وجوارحه عبودية، فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب، وقبول عمله؛ فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح» ( بدائع الفوائد، ابن القيم 3/ 162- 163).
لو حاولنا أن نعدد بعض أعمال القلوب لوجدناها كثيرة العدد وعظيمة القدر؛ أولها الإيمان الذي محله القلب، كما في قول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) (المائدة: 41)،
وكما في قوله عز وجل: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14).
ومن أعمال وعبادات القلب: المحبة، والتوكل على الله، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيه، والرهبة، والرغبة، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضا به وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والذل له والخضوع والخشوع والإخبات إليه، والطمأنينة به. ومن أعمال القلوب أيضاً: الصدق، واليقين، والإيمان، والتفكر، والتدبر، والمراقبة، والورع، والشكر، والتوبة، والإنابة، والتقوى؛ التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن محلها في القلوب، فقال:
«لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا»، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. (رواه مسلم). الشجرة الطيبة قال الله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (إبراهيم)، فالأصل والجذر الثابت هو الإيمان، والأكُل والثمر هو الطاعات، والشجرة كلما قوي أصلها (بالأعمال القلبية) قويت فروعها (أعمال الجوارح)، وأيضاً كلما قويت فروعها ثبت أصلها. «عن ابن عباس في قوله: (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) شهادة أن لا إله إلا الله، (كشجرة طيبة) وهو المؤمن، (أَصْلُهَا ثَابِتٌ) يقول: لا إله إلا الله ثابت في قلب المؤمن، (وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء» (تفسير ابن كثير).
من الآيات في هذا قول الله عز وجل: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج: 37)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال: 2)، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)،
وقوله:(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد: 16)، وقوله عز وجل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (الزمر: 23)، وقوله عز وجل: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء)، فالقلب السليم أي السالم من الشرك ومن النفاق ومن البدعة هو أساس النجاة. ويقول الله تعالى:
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) (الفتح: 18)؛ يعني بيعة أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحديبية. وقوله: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك (فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) يقول: فأنـزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له. (تفسير الطبري).
ولقد كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، ومن بعده صحابته الكرام، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ» (رواه أحمد).
وهو صلى الله عليه وسلم الذي قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم)، وقال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (رواه البخاري). إن لذة العبادة والطمأنينة فيها والأنس بها وقرة العين وراحة النفس وانشراح الصدر لا تكون إلا بتحقيق أعمال القلوب أثناء القيام بتلك العبادات، فشهادة في صدق، وصلاة في خشوع، وزكاة في حب، وصوم في تقوى، وحج في رجاء.
كما أن العكس صحيح، فيكون للعبادات الصحيحة أثر رائع على القلب؛ فتغرس الصلاة محبة الله وتعظيمه في القلب، أما الصيام فيأخذ بالقلوب إلى التقوى والصبر والصفح والعفو، أما الحج فيربي القلوب على التآلف والتعارف والوحدة ويطهرها من النزاع والمعصية والتفرق، وتطهر الزكاة النفس من الشح والغل والحقد، وتزرع فيها المحبة والمودة والتراحم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ» (جزء من حديث رواه مسلم).
معاصي القلوب وفي المقابل، فإن أشد المعاصي خطراً هي معاصي القلوب؛ مثل الكبر، والغرور، وإعجاب المرء بنفسه، والشح، واليأس من روح الله، واتباع الهوى، وحب الدنيا والمال والجاه، والرياء، والحسد، الفرق بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس أن معصية آدم كانت معصية عملها بجوارحه، حين أكل من الشجرة، ومعصية إبليس كانت معصية قلب، حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين، معصية آدم كانت زلة عارضة، نتيجة النسيان وضعف الإرادة، فتذكر وتاب، أما معصية إبليس فكانت متمكنة من قلبه، ساكنة في أعماقه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (رواه البزار، والطبراني، وحسنه الألباني)، وهذه الثلاث هي عوامل الهلاك في الدنيا والخسران في الآخرة؛ لأنها أخلاق تميت القلب، وتضعف الإيمان، وتزرع النفاق والرياء، وتؤجج نيران الحقد والعداوة والبغضاء، وتسبب للمجتمع الشقاء الدائم، والفتن الماحقة، وتؤدي إلى سفك الدماء، وقطع وشائج الأرحام، واستحلال المحارم والآثام. وعلى الطريق المناقض، فهناك المنافقون الذين قال الله فيهم:
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: 4)؛ أي إذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد تعجبك أجسامهم لاستواء خَلقها وحسن صورها، (وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يقول جلّ ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم يشبه منطقهم منطق الناس، (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ) يقول: كأن هؤلاء المنافقين خُشُب مسنَّدة لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول. (تفسير الطبري). وهم جبناء أن يعلنوا موقفهم الحقيقيِّ لأهل الإيمان والمجتمع، فلا يعلنون إيماناً صريحاً، ولا إنكاراً للحق واضحاً، وسبب ذلك كله هي قلوبهم وما تمكن فيها من مرض يحرفها عن طريق الإيمان؛ (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة: 10).
فاللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، واللهم آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، يا مقلب القوب ثبت قلوبنا على دينك.
الآراء