قال تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [المائدة: 35]. المعنى الإجمالي: “النداء موجه للمؤمنين بوصف أنهم مؤمنون؛ لأن مقتضى الإيمان أن يربوا أنفسهم على الخير، وينزعوا منها نوازع الشر، وقد ذكر سبحانه وتعالى الطريق لتربية النفس وتغليب جانب الخير فيها على جانب الشر، وجانب الصلاح على جانب الفساد، وتلك الطريق المثلى مكونة من نقط ثلاث يتكون منها الخط المستقيم الموصل للغاية الفضلى، وهذه النقط الثلاث هي التقوى، وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله، والغاية الحسنى هي الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنشر بكلمة موجزة إلى معاني التربية في كل نقطة من هذه النقط.

النقطة الأولى:

"اتَّقُوا اللَّهَ" أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، ولا شك أن النفس إذا امتلأت بالتقوى ذلك الامتلاء، جانبها الهوى والحقد والحسد، وحب الاستعلاء الباطل وصار صاحبها ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى في أوصاف أهل الإيمان: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [القصص: 83].

النقطة الثانية:

"وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ": وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة. قال قتادة: “أى تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.. وقد جاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله تعالى: "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا"[الإسراء: 57] يخبرهم تعالى بأن أولئك الذين يعبدونهم من الجن أو الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هم أنفسهم يدعون ربهم ويتوسلون للحصول على رضاه بشتى أنواع الطاعات والقربات فالذي يَعْبُدُ لا يُعْبَد ، والذي يتقرب الى الله بالطاعات لا يتقرب إليه وإنما يتقرب إلى من هو يتقرب إليه ليحظى بالمنزلة عنده ولا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف ينكف عن المناهي، وبالرجاء ينبعث على الطاعات.

قال الامام ابن تيمية: الوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك. فضيلة التقرب إلى الله بالطاعات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى". والوسيلة أيضًا: علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"من قال حين سمع النداء- أى الأذان-: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة". وقَوْلُهُ: "وَالْفَضِيلَةَ" أَيْ الْمَرْتَبَةَ الزَّائِدَةَ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْوَسِيلَةِ.

النقطة الثالثة:

"وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ" هذه هي النقطة الثالثة من الخط المستقيم، وهو الصراط القويم، وهو الجهاد في سبيل الله تعالى، وسبيل الله هو الطريق المستقيم الذي ينتهي إلى الغاية العليا من شرائع النبوة، وهو السبيل الذي يكون فيه صلاح الإنسان، ودفع الفساد في هذه الأرض، وإقامة مجتمع فاضل بين العالمين، يسعى في ظله التقي البر، ويستمتع فيه الفاجر من غير عدوان ولا فساد، والجهاد: معناه بذل أقصى الجهد في تحقيق تلك الغاية الإنسانية العليا، وهي الإصلاح في الأرض، ودفع الفساد عنها، وإقامة الحق، وخفض الباطل، وسيادة الفضيلة ودفع الرذيلة.

والجهاد ذو شعب، الأولى جهاد النفس، ومغالبة الأهواء والشهوات، ومقاومة نزعات الشيطان، ومراقبة النفس. والشعبة الثانية من شعب الجهاد، العمل على تكوين رأي عام فاضل يحث على الخير، ويقاوم الشر، ويمنع الظلم، ويقيم العدل ويحمل الظالمين على الجادة المستقيمة، ويصح أن يسمى ذلك جهادا داخليًا؛ لأنه حماية للأمة من الآفات الاجتماعية، ووقاية لها من الشر الذي يقع فيها، فهو جهاد لحماية المجتمع من آحاده كما أن الشعبة الأولى حماية للفرد من آفات نفسه.

والشعبة الثالثة من شعب الجهاد: العمل على حماية المجتمع من الظلم الخارجي، ونشر لواء المحبة والمودة بين الشعوب، وجعل العدل يسود العلاقات الدولية، ومدافعة الظالمين، وذلك النوع من الجهاد ذو ثلاث شعب، أولاها – نصر الحق بين العالم بالدعوة إليه باللسان والقلم، ومقاومة الشر من أن يستشري بالدعاية للحق والعدل ودفع الظلم، والثانية – مد الضعفاء بأسباب الحياة ومعاونتهم، والثالثة – مقاومة الظلم بالحرب العادلة دفعا للظالمين، كما قال تعالى:

". . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة: 251].

وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".

من هداية الآية:

– المتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد أرشدت المؤمنين إلى ما يسعدهم بأن ذكرت لهم ثلاث وسائل وغاية، أو ثلاث مقدمات ونتيجة. أما الوسائل الثلاث أو المقدمات الثلاث فهي: تقوى الله، والتقرب إليه بما يرضيه، والجهاد في سبيله. وأما الغاية أو النتيجة لكل ذلك فهي الفلاح والفوز والنجاح.

– ابتغاء الوسيلة من الله هي طاعته والقيام على المنهج في "افعل" و "لا تفعل" أو: العمل الصالح المتمثل في "افعل كذا" و "لا تفعل كذا" هو الوسيلة الخالصة وهي أيضًا منزلة من منازل الجنة.

– ليس الإيمان- مجرد الإيمان - هو الذي يطلب من المؤمن، ليكون فى عباد الله المؤمنين، وإنما الذي يحقق الإيمان، وينضج ثمرته، هو "التقوى" والتقوى هى اجتناب محارم الله، وامتثال أوامره، أو هى كما عرفها بعض العارفين:

"ألّا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك".

– الجهاد في سبيل الله ضمانٌ للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصولاً إلى أن تقوم الساعة، وذلك لا يتأَتّى إلا بإشاعة المنهج في العالم كله. إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في "افعل ولا تفعل" ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلاً، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تُسَهّل لنا صناعة الأجهزة العلمية ونقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولاذاً، ونحوِّل الفولاذ إلى دروع، ونصنع أدق الأجهزة التي تُهِّيئ للمقاتل فُرصة النصر.

وكذلك نَدّخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب. إذن حركة الحياة كلها جهاد، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعدّ نفسك للمعركة؛ أنك إن أعددت نفسك جيّداً وعلم خصمك أنك أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك. والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قِبَل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تُعدّ نفسها للحرب. ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا.

وصايا عملية:

– التضرع إلى الله بأسمائه الحسنى

– صلاة الاستخارة

– المحافظة على الفرائض

– الإكثار من النوافل

– الإعمار والإصلاح للأرض

– قضاء حوائج الناس.