محمد شوقي الزين باحث وأكاديمي جزائري، حاصل على دكتوراه في الدراسات العربية الإسلامية، تخصص فلسفة وتصوف، جامعة بروفونس. وحاصل على دكتوراه ثانية في الفلسفة حول المفكر الفرنسي ميشال دوسارتو، جامعة آكس-مرسيليا. من مؤلفاته: «تأويلات وتفكيكات» (2002)، «سياسة العقل» (2005)، «الثقاف في الأزمنة العجاف» (2013). وله أيضا ترجمات، منها: «فلسفة التأويل» لـ غادامير، و«ابتكار الحياة اليومي» لميشيل دوسارتو.

1-من سمات العالم الذي نعیش فیه التعددیة والتنوع الکبیر الذي یعبر عنه باللغة الدینیة بـ "سنة الاختلاف" ما هو موقفکم من سنة الاختلاف؟

سُنة الاختلاف أن التنوع ثابت على الاختلاف. الاختلاف ثابتة من ثوابت التاريخ البشري، أي أن البشر ثابتون على الاختلاف فيما بينهم، فيما هم متنوعون في ارتباطهم بوحدة العقل البشري، بمعنى انتمائهم إلى الفضاء الطبيعي والعقلي نفسه. هذا ما سميته في عدة مناسبات: «التشاكل». فالبشر يشتركون في الأشكال الأنثروبولوجية، وإن كانوا مختلفين في السمات والألوان والألسنة.

2-هناک من یقول لیس من الممکن أن تفضي السنة الإلهیة إلی سلوک عملي؛ فعلی سبیل المثال من السنن الإلهیة أن الدنیا دار المحنة وأن الناس مصابون بصور مختلفة من الأضرار کالمرض والفقر والموت ولکن لا یمکن أن یفضي هذا الوضع الذي هو من إرادة الله التکوینیة إلی إرادته التشریعیة؛ أي لا یمکن القول إذا أراد الله للعالم أن یکون محلا للمحنة والبلاء والفقر والمرض، فلا ینبغي لنا أن نسعی لإزالة الفقر أو المرض. بینما أن الله تعالی أراد أن یکون الناس مختلفین؛ هل یمکن القول علینا أن لا نسعی لنجعلهم بشرا سویا؟

هناك بعض التفسيرات الخاطئة من فرط تصنيمها للنص الذي تفسره. وجود سُنن أو نواميس في الكون لا يُنفي وجود حرية في التصرف بالتأثير على الأشياء. هناك بالفعل مرض وفقر وبلاء، لكن يمكن التغلب على هذه الأضرار بالبحث العلمي، كأن نجد مثلاً أدوية لبعض الأمراض، أو نضع قوانين تحد من الفقر بالتوزيع العادل للثروات والتخفيف من عبء الفوارق الاجتماعية. وضع ثنائية ثابتة وصنمية في شكل إرادة إلهية وعجز بشري، أمر فيه الكثير من الاختزال والاجحاف. كما جاء في النصوص الدينية أن "الله خلق الإنسان على صورته"، فمن الحكمة أن يتشبه الإنسان بالإله في توجيه أفعاله نحو غايات تكوينية، بأن يكون فاعلاً في العالم الذي يتواجد فيه، منتجاً للأشياء والرموز، متواصلاً مع غيره من البشر.

3-ما هي متطلبات قبول الآخر؟ بعبارة أخری کیف نتعامل مع الآخرین حتی نکون متسامحین؟

متطلبات ذلك أن يُدرك الإنسان تواجده في العالم بجوار من يماثله في بعض السمات، وإن اختلف معه في التصورات والتوجُهات. يمكن استحضار هنا بعض البداهات النصية التي تقول بأن الإنسان يُعامل غيره بمثل ما يريد أن يُعامَل. بهذه المرآوية البشرية، يُدرك الإنسان نفسه في مرآة غيره، ويرى غيره في مجمل السلوكيات والتصورات. يحمل الإنسان الغيرية، مع ذاته أولا، بأن يكون غير ما هو عليه في كل الأحوال التي يجتازها؛ ومع غيره ثانيا، بأن يماثله ويختلف عنه في الوقت نفسه.

4- ما هو الفارق بین مفاهیم کالتحمل والتسامح وقبول الآخر؟ هل کل هذه المفاهیم تدل علی معنی واحد؟

هذه المفاهيم مترابطة. لا تدل ربما على دلالة بعينها في المفاهيم الأخرى، لكن تشترك معها من حيث العلاقة الواجب إقامتها مع الآخر، علاقة تُدرك العُمق الإنساني من حيث الإدراك والتواصل والتعامل.

5- من أین تنبع ضرورة الالتزام بالتسامح؟ هل هي تنبع من عجزنا وعدم قدراتنا؟ أعني إذا کنا غیر قادرین من محاکاة الآخرین فلا بد لنا من التسامح معهم؟ هل أن قبول الآخر ینطلق من الإکراه من حیث لا مفر منه؟

لم يكن التسامح أبدا محاكاة الآخر. ومحاكاة الآخر لا تعني في الأساس أننا متسامحون. التسامح هو فقط العلاقة الواجب إقامتها في نظام التواصل البشري، علاقة تنبني على مجموعة من الإدراكات (إدراك الآخر)، وعلى رأسها جعل الإنسان الغاية وليس الوسيلة، كما ذهب الفيلسوف إيمانويل كانط. يقتضي الواجب أن نتعامل مع الآخر بوصفها ذاتاً قائمة، لها كينونة الانخراط في الإنسانية الجامعة والمشتركة.

6- في مفاهیم کالتسامح وقبول الآخر قد یجري الحدیث عن نوع من التفاعل مع الآخر؛ السؤال هنا هل هناک حدود لـ"الآخر" الذي یجب أن یعامل معه بالتسامح؟ هل یمکن التسامح مع هؤلاء الذین یدعون لعدم التوافق وعدم قبول الآخرین؟

لا يتعلق الأمر بمقابلة اللاتسامح باللاتسامح. إذا كان هنالك تعدي أو اختراق في الواجبات والمقتضيات الأخلاقية، فإن القانون هو الذي يُجيب عن هذا المشكل. يشتغل التسامح في مساحة إدراك الآخر كينونة إنسانية قائمة بذاتها، غير قابلة للتجزيء أو التبعيض، أي غير قابلة لأن نمارس عليها العنف أو الإكراه أو نقتطع من حقوقها أو وحدتها الإنسانية.

7- إن مفهوم "قبول" الآخر بحاجة إلی مزید من الشرح خاصة حین نستخدم مفاهیم أخری کالتحمل والتسامح؛ ویمکن أن یکون هذا القبول للآخرین أکثر سلبیا بمعنی أننا قد لا نحول دونه ولا نقوم برفضه ولا إزالته؛ ولکن یمکننا أن نفهم من "القبول" معنی أکثر إیجابیا وهو أن الآخر یجب أن تتیح له فرصة متکافئة بالنسبة لنا وله الحق أن یبلغ لدینه ومعتقده وهو متساوٍ معي في تمتعه بالحقوق والمزایا الاجتماعیة؛ برأیکم أي هذین المعنیین ینطبق علی مفهوم قبول الآخر والتسامح؟

ليس التسامح مجرد قيمة أخلاقية مجردة أو معراة عن الاعتبارات الأخرى كالقوانين والواجبات. أمام اللاتسامح مثلا، يتدخل القانون. عندما نحرم الآخر من حريته في التعبير واختيار المعتقد الذي يتلاءم معه، فإن القانون يتدخل لحماية هذه الحرية من الإكراه والتعسف. قد ينطبق التسامح على الأفراد من حيث انفتاحهم، لكن في بعض التجمعات البشرية، أو في بعض الانتماءات العقائدية أو الطائفية، فإن التسامح يواجه محنة، لأن من طبع الجماعات أو تستغرق الأفراد، وتميل إلى فرض توجه أو سلوك معين.

8- یبدو أنه لا یلزم لمقولة "قبول الآخر" أن نؤمن أن معتقداته حق وأنه یکافئني في تمتعه بحق معرفي؛ یکفي أن نقبل: أنه یجب أن یتمتع الآخر بالحقوق والفرص المتساویة التي أملکها؛ هل قبول الآخر یعني علینا أن نعامل مع الجمیع علی حد سواء عاطفیا وتواصلیا؟

قبول الآخر لا يتبعض أو يتجزأ، لأنه ينطبق على ذات إنسانية لها الحقوق والواجبات في إقامة نمط معين من العلاقة مع الآخر.

9- السؤال الآخر هو أن الاتجاهات والأطیاف الذین یعیشون في الأقلیة والضعف والحرمان من السلطة السیاسیة هل یدعون لقبول الآخر لکونهم في الأقلیة أو أن قبول الآخر أصبحت لهم کاستراتیجیة دائمة؟ وإذا وصلوا إلی الحکم أو الإدارة هل سوف یتمسکون بمقتضاه؟ بعبارة أخری الترکیز علی قبول الآخر ینبع من شروطهم الخاصة أو نابع من قناعتهم الفکرية والاستراتیجية؟

لا يخضع قبول الآخر إلى تكتيكات أو حسابات أو مناورات؛ لأن الإنسان في وحدته الجسدية والنفسية غير قابل للتجزيء. أن تكون له حقوق في التعبير والتفكير والاعتقاد، وأن تكون له واجبات في الخضوع إلى القانون واحترام الآخرين، هذا هو صُلب المسألة.

10- برأیکم ما هي العوامل التي تفضي إلی تعزیز ثقافة قبول الآخر في مستوی المجتمع؟ ما هي عقباتها ومضراتها؟ ما هي تجلیات عدم قبول الآخر في العلاقات الاجتماعیة إذا کانت موجودة؟

تعزيز ثقافة قبول الآخر مرهونة بنقل الإنسان عموماً من الوسيلة إلى الغاية، وأن غايته تكمن في ذاته. عندما نتوصل إلى وضع هذه القاعدة سلوكاً منهجياً وفلسفة في الحياة الاجتماعية، فإن سؤال قبول الآخر يُصبح من أساسيات الاجتماع البشري والتواصل بين الأفراد. قد تظهر بعض الاختلافات أو الخلافات بالمقارنة مع الانخراط في حزب أو طائفة أو الانتماء إلى معتقد أو ثقافة، غير أن حدة هذه الاختلافات أو الخلافات هي التي تُبرز درجة العلاقة، المرنة أو المحمومة، بين الأفراد والجماعات. في مجتمعات ديمقراطية، قبول الآخر في درجة عُليا من الثقافة السياسية والاجتماعية، وفي مجتمعات سجينة الانتماءات الطائفية والإيديولوجية، فإن قبول الآخر عسير الإنجاز، أخلاقياً وقانونياً.

11- إذا تأملنا في المصادر الدینیة لعلمنا أنه قد نبعت وتنبع من الدین قراءات مناهضة للآخرین؛ برأیکم الإهمال عن أي من المواد أدت إلی قراءات هکذا؟ کیف یمکن توجیه النقد المؤثر للقراءات المناهضة للآخرین؟

كما أشرتُ سابقاً، تكمن المشكلة في التعامل مع المصادر الدينية في تصنيم النص، وعدم وضعه في سياقه ومعقوليته الزمنية، أي في أزمنة كانت فيها الحرب والعداء والنزوع نحو الهيمنة والاحتلال أنماطاً سياسية وعسكرية. في أزمنة السلم، تكون ثقافة قبول الآخر مزدهرة، لأن سياق التواصل أكثر مرونة، ولأن التعايُش بين الثقافات أو الطوائف يتيح رسوخ التسامح وازدهاره.

12- ما هي أهم الدلالات والتعالیم التي بإمکانها أن تکون قاعدة نظریة لقبول الآخر؟ کیف یمکن الاحتجاج لصالح قبول الآخر بالنظر إلی مقاصد الدین وفلسفة الأحکام؟

أشرتُ من قبل إلى قاعدة كانطية وهي الإنسان غايته في ذاته. إذا أخذنا بهذه القاعدة أو هذا المبدأ، فإن قبول الآخر يكون له معنى ويكون له مغزى. يأتي العداء والكراهية من فكرة أن الآخر عبارة عن وسيلة وليس غاية، وعلى أساس الدونية بالنسبة للآخر، والتفوق بالنسبة للأنا. غالباً ما تحتكم هذه الإدراكات إلى أحكام خاطئة وتمثلات مشوهة، تُشوه بدورها العلاقة السليمة بالآخر.

13- هناک تعالیم دینیة قد أصبحت ذریعة للمعادي للآخرین: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر والجهاد لإعلاء کلمة الله والرسالة الإلهیة لإصلاح الأرض وإزالة الفساد وضلال غالبیة البشر ورغباتهم الشهوانیة وتوصیة الدین لعدم الاتباع من أکثر الناس و... کیف یمکن تطابق هذه التعالیم مع أساس التسامح؟

من المفارقة أن الذين ينادون بإصلاح الأرض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستعملون وسائل غير أخلاقية في ذلك، عبر العنف والإرهاب. لا يمكن إضفاء مصداقية على ذلك، ما دام إدراك الآخر يخضع إلى ثنائيات عقيمة: مؤمن/كافر، مستقيم/ضال، إلخ. لا يمكن في ظل هذه الرؤية الاختزالية للآخر وضع أساسيات التسامح. يقتضي التسامح نوع من التشاكل، أن المعتقدات كلها هي أشكال متنوعة للحقيقة نفسها. فهي تتشاكل، لأنها تشترك في الشكل الأسمى نفسه وهو التوحيد. يمكن استحضار هنا المبدأ الرواقي العريق: هناك حقيقة وحق. الحقيقة واحدة والحق متعدد الوجوه والمشارب. مجموع المعتقدات والأديان هي «حقوق» متفرعة عن حقيقة واحدة. عندما تدخل هذه الحقوق في صراع بينها لاحتكار الحقيقة، فإن التسامح يبطل.

14- إذا أردنا أن نتکلم عن سمات ملحوظة لمواطن متسامح إلي أي من هذه السمات یمکن أن نشیر؟

نشير إلى مواطن يلتزم بالقانون الذي يُحدد له الواجبات تجاه الغير؛ ونشير أيضاً إلى ضرورة التفاعل بين الأفراد في مساحة التعايش المشترك. وهذا يضمنه السلوك النابع من الأخلاق المشتركة، التي تضع الإنسان في مركز الاهتمام، بغض النظر عن ميوله وخياراته. المساحة المشتركة هي مساحة تقاسُم قيم العيش المشتركة والسلوك المتعقل، بعيداً عن التعصب وإرادة الهيمنة والإكراه.