لا شک أن السیاسة جزء من الدین لا تتجرأ عنه ولکن کثیرا من المواطنین الذین ليس لهم حصة في صنع قرارات البلاد السیاسیة لأنهم لیست بأیدیهم مقالید الحکم، غیر سعیدین من سماع هذه العبارة و ربما یخوضون في حدیث غیرها ویظهرون أنهم غیر راضین من الولوج في أي نقاش سیاسي. وقد توصلوا إلی استنتاج أن السیاسة من حیث المبدأ بمعنی الکذب والخداع وعلی المسلم أن یجتنب منها أین ما کان. فحینما یسمعون اسم حزب دیني ينتابهم نفس الشعور الذي أسلفنا ذكره؛ وکأنهم قد أصبحوا علی یقین أن کل حزب دیني خاض في السیاسة فلن یکون حزبا دینیا بل هو حزب سیاسي. ومما یزيد الطین بلة هو أن کثیرا من المؤمنین یفرطون في الأمر حیث لا یبالون بأي شيء مما یجري حولهم فیظلون غیر مدرکین تماما مما تنزل بإخوانهم من مصائب في غیر قلیل من بقاع العالم.
هل هناک علاقة بین هؤلاء وبین العالم الترکي الجلیل سعید النورسي حیث کان یعوذ بالله منها ویقول: "أعوذ بالله من الشیطان والسیاسة"؟
فما معنی السیاسة؟ وما موقف المؤمن منها؟ هل یمکن إزالتها من مفردات حیاتنا الاجتماعیة؟
إن المعنی الأکثر شیوعا في مفهوم السیاسة هو تدبیر الأمور مأخوذة من مادة ساس یسوس. هذا من الجهة اللغوية واصطلاحا بمعنی رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية حیث تمتد إلی شؤون الدولة والإدارة وتحدید کیفیة إدارة الحکومة.
وحین نرجع إلی واقعنا المعیشي والاجتماعي نری أننا بحاجة إلی السیاسة؛ لأنه لن یتم تدبیر شؤوننا بدءا من الشؤون الشخصیة والأسریة حتی الاجتماعیة وصولا إلی الشؤون الحکومیة دون تدبیر وصیاغة استراتیجي؛ فإذا أوغلنا في الشؤون الأسرية أو الاجتماعیة فهل لجئنا إلی الخداع والتزویر؟ لا شک أن الإجابة لیست إیجابیة ولیس لدینا مثل هذه الصورة من السیاسة. ولکن إذا تسرت هذه الکلمة إلی الشؤون الحکومیة والملکیة نتحاشى عنها جدا وکأنها حرام علینا والعملیة السیاسیة لا علاقة لها بالمفاهیم الدینیة وهي تنتمي لهؤلاء الذین یمکنهم أن يقعوا في الکذب والتزویر بسهولة ولهذا خولوا أمر السیاسة إلى أهلها.
لایزال هناک من إذا ذکر عنده رجل سیاسی صالح یغضب ویکیل السیاسیین کلهم بمکیال واحد کأنه ما ظهر حاکم صالح عبر القرون. الولوج في السیاسة في مجتمعاتنا لایزال یعتبر ذنبا لا یغتفر وکل من أراد أن یکون له حصة في السلطة بالطرق السلمیة یُتهم بالعمل السیاسي وأن أقل الأثر لهذا التفکیر حتی الآن أدی إلی أن یمتلک الآخرون مقاعد الحکم بسهولة ودون قلق ویلعبوا الدور المصیری فی تحدید مصیر الشعوب.
إن الحکومة وإدارة الشؤون السیاسیة لو کانت مذمومة في النظرة الدینیة لما کان یمدح الله حکم نبیه سلیمان وقد بلغ أمره إلی أن دعا الله أن یؤتیه من الملک ما لم یؤت أحدا من العالمین؛ ولم یکن لیذکر ملک ملکة سبإ بلقیس وما جری بینها وبین سلیمان. إذا اعتبرنا تحمل ثقل أعباء السیاسة وظیفة علی الإنسان فبأي مصوغ یحجم عن أداء الوظیفة خاصة حین یری في نفسه جدارة حمل المسؤولیة مطوعا کیوسف الصدیق حین یقوم بقبول إدارة خزائن الملک.
ما أجمل قول بروفیسور نجم الدین أربکان حین یقول: المسلمون الذین لا یهتمون بالسیاسة فسوف یحکم علیهم أناس لا یهتمون بهم أي اهتمام.
ویقول هراکلیتوس: المواطن الذي لا علاقة له بالسیاسة هو أخطر المواطنین لأنه یساند الظلم حین یحجم عن العمل السیاسي.
ویقول برتولت برشت: إن أسوأ الأمیین الأمي السیاسي لأنه لا یسمع ولا ینطق ولا یشارک في القضایا السیاسیة؛ هو لا یدري أن تکالیف المعیشة کأسعار الفول والسمک والطحین والإیجار والأحذیة والأدویة کلها تعتمد علی القرارات السیاسیة. إنه بلغ من الغباء مبلغا جعله یقول باعتزاز إنه یبغض السیاسة مقتا ولا یدري هذا الغبي أن نتیجة جهله السیاسي هي ولادة النساء العاهرات وأطفال الشوارع والأسوأ من هذا یحکم علیه السیاسیون الفاسدون خادمو الرأسمالية المحلية والعالمية.
إن إخفاق بعض التیارات الإسلامیة المعاصرة في عدد من البلدان قد صار حافزا لهؤلاء المهربین من السیاسة حتی یترکوا السیاسة بأکملها غیر مدرکین النجاحات التي حصلت إلی جانب هذه الهزائم وأن بعض هذه الهزائم لا علاقة لها بالأسلوب العملي لتلک التیارات وربما حصلت بمبارکة التدخل الأجنبي مباشرة. وإذا کان الخطأ من الإسلامیین فهل یکون مسوغا للهروب من السیاسة؟
إن الأحزاب التي خاضت منافسة سلمیة للمطالبة بحصتها ونفوذها في السلطة عبر الأسالیب المتبعة من المجتمعات المتقدمة ربما تذوق طعم الهزیمة مرارا حتی تصبح أکثر نضجا. علاوة علی ذلک فإن نظرة بعض من الأشخاص الناجحين إلی الهزیمة لیست نظرة عادیة لأنه لیس في مفردات حیاتهم شیئ باسم الهزیمة وأیا کانت فهي دروس وتجارب. وقد نقل أحد الأساتذة من الأستاذ أحمد راشد قوله الشهیر أنه یقول: إنی لن اعترف بالهزیمة أبدا.
الآراء