إذا كان الشرع قد جعل مقصد الصوم التقوى بعمومها وشمولها، والتقوى هي الأخذ بالأمر والنهي، فإن هذه التقوى تستلزم من صاحبها العلو على حظ نفسه، وعدم مطاوعته لها، بل العمل على حملها على ما يخالفها من الأفعال والأقوال والنوايا؛ ذلك لأن علماءنا يقررون أن الرضا عن النفس علامة خطأ، وإذا كان الحال كذلك كان لا بدّ للصائم من ارغام نفسه على مخالفة ما اعتادت عليه، وحملها على الخروج على المألوف، وهذا في الحقيقة هضم للنفس واكراه لها، فكما أن الله تعالى يسّر للصائم مخالفة اجبارية للمألوف في الطعام والشراب في أن يمسك بالنهار ويفطر بالليل، فإن هذا بالضرورة دافع له إلى أن يعمل على أن يغيّر ألفه في التعامل مع الناس ليكون رقيقاً خيراً بعيداً عن الأذى، «فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم».

إن هضم النفس هنا يكون بمنعها من الانتقام ورد العدوان، ودفعها إلى الصفح والعفو ومبادرة الآخر، بإخباره أنه صائم، فإن كان منه ذلك حقيقة منع نفسه من أن تؤذي غيره، وإن لم يكن منه ذلك جمحت نفسه واعتدت على غيره ونسي هو أنه صائم.

كما أن في البذل والإنفاق في نهار رمضان هضم للنفس، فالمعتاد أن المرء يجمع ماله لأخص الناس به وهم أهله وأبناؤه، لكنه يمسكه عن غيره، فأن يأتيه الشرع ويكلفه أن يبذل لغيره وينفق عليهم براً وصلة وتصدقاً وتفطيراً فإن هذا هضم للنفس، وحملٌ لها على مخالفة المألوف، وفي إشغال هذه النفس بالقرآن تعلماً وتعليماً وتدبراً وتفسيراً كذلك هضمٌ للنفس، وهكذا الحال في كل عمل يعمله الصائم يرى فيه حملاً لنفسه على مخالفة مألوفها مما ظهر أو أخفي، قلّ أو كثر، عمّ نفعه الخاصة أو العامة، إذا نظر فيه هذا الإنسان وجد فيه مخالفة لهذه النفس، وحملاً لها على غير ما ألفته، إذا ما دقق النظر فيه وجد أنه دائر في باب هضم النفس، فهل يعي هذا المسلمون؟ حين يكبحون جماح هذه النفوس بحملها على حسن الطاعة لله عزّ وجل، وإبعادها عن شرّ المعصية له سبحانه.

إذ بهذا نسلك الطريق نحو تزكية هذه النفس وتعبيدها لله عزّ وجل لتكون كما أراد الله تعالى لها >ونفسٍ وما سوّاها فألهمَا فجورها وتقوها. قد أفلحَ من زكاها وقد خابَ من دسّاها<، فهو طريق السائرين في مخالفة النفس وسوء الظن بها، وعدم الرضا بما توحيه من تحقق الكفاية في الفعل لما يضمن للمسلم انطلاقة جديدة في تربية نفسه وتحسين سلوكه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.

وهذا يدفع المسلم في كل حياته إلى أن يكون هاضماً لنفسه في كل التكاليف، ففي الصلاة هضم للنفس بمخالفة مرادها، وفي الحج هضم للنفس بإخراجها من مقر سكناها وايصالها إلى مكان بعيد غريب عنها بغية تحصيل الأجر والتخفف من الوزر، وفي الزكاة هضم للنفس بأن توجد فيها الأريحية التي بها تتقبل مشاركة الآخرين لها وهكذا في كل التكاليف الشرعية فكلما رأيت من نفسك احجاماً عن أمر فخالفتها فيه وفعلته تكون قد هضمت هذه النفس وقصرتها على الخير وحملتها عليه حملاً، والله المستعان.