العدل ـ في الإسلام ـ اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى(1).. والله سبحانه وتعالى يأمر بالعدل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90}) (النحل). ولأن العدل نقيض الظلم، فلقد حرّم الله الظلم على نفسه، وعلى عباده: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً {40}) (النساء)، (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {44}) (يونس)، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً {49}) (الكهف). ولذلك كان العدل هو الروح السارية في الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية.. فلقد حرم الإسلام حتى ظلم الإنسان لنفسه ومن باب أولى ظلمه لغيره: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً {97}) (النساء). ولقد أوجب الإسلام العدل في المعاملات والعلاقات، حتى مع من نكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {8}) (المائدة)، وحتى مع من يُقاتلنا: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190}‏) (البقرة)، (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {194}) (البقرة). ولقد أسس الإسلام فريضة العدل مع الآخرين على سنة من سنن الله الكونية والتكوينية التي لا تبديل لها ولا تحويل.. وليس على مزاج يتغير، أو خُلق يتبدل.. فالتنوع والاختلاف ـ أي وجود الآخرين ـ هو سنة من سنن الله في كل عوالم المخلوقات.. والواحدية والأحدية هي فقط للذات الإلهية ومن عداه وما عداه ـ في عوالم الإنسان.. والأفكار.. والشرائع والملل.. والمناهج والثقافات والحضارات.. والألسنة واللغات والقوميات.. والأجناس والألوان.. والشعوب والقبائل ـ بل وفي النبات والحيوان والجماد.. هذا التنوع والتمايز والاختلاف في جميع هذه العوالم سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل.. والتعارف ـ المؤسس على التعايش والتعاون والتحاور ـ هو المقصد الأسمى لهؤلاء الفرقاء المختلفين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات). ، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48}) (المائدة)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119}) (هود)، أي وللتنوع والاختلاف والتمايز خلقهم.. وفي هذا التنوع والاختلاف الحافز على التسابق في طريق الخيرات بين المختلفين: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {148}) (البقرة). وإذا كان الإسلام قد اعترف بكل النبوات والرسالات والكتب والشرائع التي توالت على طريق علاقة السماء بالإنسان، عبر التاريخ الطويل للنبوات والرسالات: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285}) (البقرة)، وتجاوز ـ بذلك ـ مجرد الاعتراف بالآخر إلى حيث جعل هذا «الآخر» جزءاً من «الذات» عندما قرر أن تنوع الشرائع السماوية إنما هو تمايز في إطار وحدة دين الله.. فلكل أمة شرعة، أما الدين فواحد.. والأنبياء.. ومن ثم أممهم ـ إخوة، أمهاتهم ـ أي شريعتهم ـ شتى وأبوهم ـ أي دينهم ـ واحد.. وفي هذا المعنى وهذه الفلسفة جاء حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الأنبياء أولاد عَلاَّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والإمام أحمد). ولهذه الحقيقة ـ حقيقة نظرة الإسلام هذه إلى «الآخر»، وعلاقته به.. كان العدل الإسلامي الذي حرص دائماً على أن يميز بين الفرقاء والفصائل والمذاهب والتيارات، والطوائف في هذا «الآخر»، فلا يعمم ولا يضع الجميع في «سلة» واحدة، كي لا يظلم بهذا التعميم.. ولذلك، لا نجد الإسلام ـ مثلاً يضع أهل الكتاب في سلة واحدة.. فنجد القرآن الكريم يذكر: و«طائفة» من أهل الكتاب.. و«فريقاً» من أهل الكتاب.. فهم «ليسوا سواء».. وإنما «منهم أمة مقتصدة» ومنهم الذين «ساء ما يعملون».. يسلك القرآن الكريم سبيل العدل هذا، فيميز بين الفرقاء المتمايزين وفق تمايزهم وعلاقاتهم بالكلمة السواء.. فنقرأ فيه: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113} يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ {114} وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {115}‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {116}) (آل عمران)، ( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {69}) (آل عمران)، (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {72}( (آل عمران)، ِ(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {109}) (البقرة)، (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75}) (آل عمران)، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110} (آل عمران). فمن أهل الكتاب: {أمة مقتصدة} ومنهم {أشد الناس عداوة للذين آمنوا} ومنهم من هم أقرب مودة للذين آمنوا: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {83}) (المائدة). وإذا كانوا{ليسوا سواء}.. فإن جزاءهم عند الله ليس واحداً.. فالذين كفروا منهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {116}) (آل عمران)، أما (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابئونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {69}) (المائدة). والمسلمون يدعون كل فرقاء «الآخر» إلى كلمة سواء: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ ِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64}) (آل عمران).. والجدال معهم يجب أن يكون، ليس فقط بالأسلوب الحسن، وإنما بالأحسن: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {46}) (العنكبوت)، فالكلمة السواء هي أصول الإيمان الثلاثة: التوحيد لله.. والإيمان بالغيب.. والعمل الصالح.. مع التنوع في الشرائع داخل أصول هذه الكلمة السواء. ولهذا العدل الإسلامي، لم يعمم القرآن الكريم الحكم بالتحريف على كل ما لدى أهل الكتاب، وإنما نبه على أن فيما لديهم هدى ونور: (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) (المائدة:46)، (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {47}) (المائدة)، ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (المائدة: 44)، (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {43}) (المائدة). هكذا بلغ الإسلام الذروة في العدل مع كل ألوان أطياف «الآخرين» و«المخالفين». الهامش: (1) الغزالي ـ أبو حامد ـ: «المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى» ص 60 - 63، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.