هناك أصوات تعلو بالقول إن الأديان من شعوذات الماضي، وعلى الإنسان أن يلقي بها جانبا وألا يأبه بتعاليم رجال الدين لأنهم فاسدون مفسدون وعنصريون. وأغلب هذه الأصوات تصب جام غضبها على الإسلام دون غيره من الأديان، على اعتبار أنه ولّد أعدادا هائلة من العنصريين الإرهابيين الذين يحتكرون الإيمان والجنة والحور العين، والذين أشاعوا الإرهاب والقتل والدمار. تنتشر المشاعر التي تضيق بالإسلام في الدول الغربية بصورة خاصة، لكن الصورة السيئة حول الإسلام باتت منتشرة في كل العالم، ودخلت بعض العالم الإسلامي أيضا. نسبةٌ لا بأس بها من المسلمين -وخاصة من المثقفين والجامعيين والأكاديميين- باتت ترى في الإسلام دينا منحرفا يعلّم الكراهية والبغضاء والسوداوية والانتقام والغدر، ومن الأفضل إلقاؤه جانبا بلا أسف.

وهذا أمر خطير محدق بالأمة الإسلامية لأنه إن اشتد ولقي التأييد فإن خرابا كبيرا سيلحق بالمجتمعات الإسلامية، ولن تتوقف الأمور عن المخاصمة والشجار. لدى الناقمين على الإسلام ما يبرر مواقفهم وذلك عبر تصرفات من يقولون إنهم مسلمون ويدافعون عن الإسلام. لقد أساء العديد من المسلمين التصرف وأصروا على الإساءة وتوليد ردود فعل سلبية ضد الإسلام، سواء كانوا على مستوى شخصي أو على مستوى تنظيمي جماعي أو على مستوى دول. ويجب ألا نختبئ خلف أصابعنا وننكر إساءات المسلمين إلى الإسلام؛ فإذا نظرنا إلى التصرفات الشخصية فإننا قلما نجد تصرفات إسلامية أخلاقية منسجمة مع التعاليم الإسلامية.

تجد الشخص في الصف الأول مع المصلين في المسجد، لكننا نجده منافقا وكاذبا ومحتالا وآكلا للحرام ومعاديا للمصالح العامة، وبعيدا كل البعد عن المنظومة الأخلاقية التي يتطلبها الإسلام. حتى إن هذا الوصف لينطبق على أعداد كبيرة من أئمة المساجد وأصحاب اللحى الذين يسبحون دائما بحمد الله ويشكرونه على نعمه. ومشايخ السلاطين والحكام يشكلون قمة النفاق والكذب والاستهتار بمصالح الناس. وعلى مستوى التنظيمات والجماعات نرى فيها الخداع والمراءاة والدجل والتضليل، والكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام والتحريف في تفسير آيات القرآن الكريم. وفي كثير من الأحيان تضع هذه الجماعات القرآن جانبا متجاهلة له لتستند في مواقفها إلى أحاديث غير معروفة النسب والحسب والسند، ومخالفة لنصوص قرآنية واضحة.

وأما على مستوى الدول والحكومات، فالعالم ليس بحاجة لإثباتات تبرهن على أن الحكومات الإسلامية في أغلبها إرهابية قمعية همجية ووحشية في قمع شعوبها وملاحقة مواطنيها. ويكفي هذه الحكومات خزيا وعارا أنها غير قادرة على إنقاذ مقدساتها من براثن احتلال دويلة صغيرة مثل الكيان الصهيوني. ومن حق الآخرين أن يتساءلوا عن هذا الإسلام الذي يجعل الدول الإسلامية في غاية الضعف والهوان وغارقة في الهزائم في مختلف ميادين الحياة. وعلى مستوى التعامل اليومي، من الصعب أن نجد تعاملا إسلاميا حقيقيا، وإنما هناك تعامل عام وبأثواب متعددة وينسب في أغلب الأحيان للإسلام. وهذا ليس صحيحا فقط في دول غير إسلامية، وإنما يتجلى بوضوح في البلدان الإسلامية.

فمثلا لا يحرص أغلب الناس على النظافة رغم أنهم يقولون إن النظافة من الإيمان، لكنهم يحرصون عليها إذا ارتحلوا إلى دولة يعاقب قانونها على غياب النظافة. وهكذا تتحول المنظومة القيمية الإسلامية إلى منظومة خوف من القانون وليس احتراما للضمير الإنساني أو لتعاليم رب العالمين. ويعاني الكثير من المسلمين من نصائح تتوارد عليهم من كل من تثقف ولو بشكل بسيط ببعض الأمور الإسلامية.

إذ يحاول أغلب الناس أن يصدروا فتاوى ساذجة على قدر عقولهم وليس لها جذور في الإسلام، وهم بذلك يضايقون المخاطبين ويعطون انطباعا غير جيد عن الإسلام. وفي تجربتي الشخصية، لقيت العديد من المضايقات عبر السنوات لأنني متخصص في الفكر الإسلامي وصاحب مدرسة التجديد الإسلامي. لقد كفروني على المنابر في الأرض المحتلة 67 لأنني خاطبت المسلمين بتوفير نفقات الحج لدعم المقاومة في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وذلك لأن تحرير المقدسات أولى من الارتحال إلى مكة المكرمة تحت حراب الاحتلال الذي يعتدي على مقدسات المسلمين. القاعدة الإسلامية تقول إن أعمال الجهاد ضد الغزاة والطغاة لها أولوية على أعمال الحج. ففي أحد أيام الجمعة، اتفقوا على تكفيري على اعتبار أنني ألغي فريضة الحج. وكنت عندئذ أصلي الجمعة في أحد مساجد نابلس وسمعت الخطيب وهو يشتمني. لقد كذب وضلل وأساء.

وفضلا عن ذلك، لا يكلف المنتسبين للإسلام أنفسهم عناء البحث فيما تكتب أو تقول، وإنما يتصرفون وفق انطباعات كوّنوها عبر الزمن من خلال التدريس الديني المتخلف الذي ورثوه وظنوا أنه يعبر عن الحقيقة. وقد لاحظت أن العرب بصورة خاصة عملوا على تعريب الدين الإسلامي عبر الزمن، وقاموا بليّ ذراع التعاليم الدينية الإسلامية بطريقة تتناسب مع التقاليد العربية وخاصة فيما يتعلق بالمرأة. وواضح من سلوكيات العديد من المسلمين أن وأد المرأة بطريقة حديثة لم يتوقف، ولم يتوقف تهميشها والنظر إليها على أنها عار وموضوع جنسي. وهذا بحد ذاته يجلب للمسلمين الكثير من ردود الفعل السلبية؛ فمثلا يقول سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

والتعارف هنا يعني التعاون والتضامن والعمل معا، ولا يعني البغضاء والصراع والتنابز. ووسيلة التعارف -كما هو معروف لدى كل الأمم- هي الاسم والوجه. ورغم ذلك ما زال هناك من يصر على تغطية وجه المرأة في مخالفة صريحة لخلق الله وليس للتشريع فقط. الخلق أقوى من الفتاوى، وإذا تضاربت الفتاوى مع الخلق فإن الغلبة للخلق. المسلمون هم أكثر الناس استهلاكا للأقمشة ليس لأنهم يبجلون المرأة، ولكن لأنهم يشعرون بأنها العار بنفسه. وفي المقابل، الغرب يستهلكون القليل من القماش ليس لأنهم يحترمون المرأة ولكن لأنهم يستعملونها.

لقد تغلبت العادات العربية على المنظومة القيمية الإسلامية، ولجأنا إلى كتب الحديث لنستخرج من الفتاوى ما يحوّل الدين الإسلامي إلى دين عربي كهنوتي. فمثلا نجد أن حوالي 12% من آيات القرآن الكريم ذات علاقة بالعلم والعلماء والتفكر والتدبر والنظر، وهناك فقط آيتان حول لباس المرأة. لا تشغلنا مئات الآيات حول العلم، لكن آيتيْ اللباس لا تغيبان عن نقاشاتنا، ونعمل على تفسيرهما عربيا وليس وفق القراءة العلمية لمنهج تحليل المضمون. المنظومة القيمية الإسلامية منظومة راقية ورصينة وتؤلف بين القلوب وتوحد الأمم، لكن المنظومة العربية الخاصة بالعرب تسيطر عليها التقاليد والعادات العربية. ومن حيث إننا لم نقصر في الكذب على لسان رسول الله عليه السلام، وكتبنا الكثير من الأحاديث التي تبرر لنا الكثير من الأعمال غير الإسلامية، مثل ذبح الناس وإثقالهم بالضرائب والرسوم؛ فإننا نجد أن القرآن الكريم لا يخدم أغراضنا ولا يبرر لنا الكثير من التصرفات غير اللائقة.

وقد قال لنا رسول الله: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، وقال في خطبة الوداع: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنتي". ورغم ذلك فإننا نلوي المعاني بالطريقة التي تخدمنا وتمكننا من تزوير التعاليم الإسلامية، لتتناسب مع أساليب الخداع والكذب والتزوير. ورغم ذلك، فإن علينا ألا نهجر الإسلام، وألا نأخذ الإسلام بجريرة من يسيئون إليه. فنحن العرب عُرفنا بالإسلام، والإسلام عُرف بنا.

وإذا عزلنا الإسلام عن الحضارة والثقافة العربيتين فماذا يتبقى لنا؟ كنا أقواما وقبائل متصارعة قبل الإسلام، ولم نتمكن من إقامة حضارة تساهم في بناء الحضارات العالمية، وفقط أصبحنا مساهمين وروادا بعد ظهور الإسلام. لقد سبقَنا أهلُ الصين وبلاد فارس وبلاد الروم إلى الارتقاء في البناء الحضاري، لكن الإسلام رفعنا حضاريا ووضعنا في ميدان السباق مع الأمم الأخرى. والإسلام يشكل مكونا أساسيا في التربية العربية والبناء النفسي للأفراد والجماعات. صحيح أننا غير ملتزمين بالمنظومة القيمية الإسلامية، لكن من الممكن أن نستدرك الأمر إذا أقمنا برنامجا تربويا جديدا يقرأ الإسلام علميا وبدقة منهجية، ويعيد صياغة القواعد الفكرية والفقهية في مختلف البرامج التربوية والثقافية.

وقد كنت من المروجين للفكرة على مدى سنوات طويلة، لكن وسائل الإعلام لم تكن تتعاون بسبب خوفها من تكفير الفقهاء، ولم يكن الناس متعاونين لأن العديد من الطروحات الفكرية تخالف قناعاتهم الفقهية التي تربّوا عليها على مدى سني حياتهم. نزع الإسلام من حركة الحياة كمن ينزع نفسه عن نفسه، ونحن بحاجة فقط إلى إعادة صياغة الثقافة الإسلامية؛ فماذا نعمل؟

أولا: التمييز بين الفقه والفكر؛ فقد اتخذ المسلمون حتى الآن الإسلام على أنه دين فقهي وليس دينا فكريا، والفكر الإسلامي مغيّب إلى حد كبير. هناك بعض المفكرين الإسلاميين المعنيين بدراسة الإسلام وبالأخص القرآن الكريم بطريقة علمية، لكنهم ما زالوا قلة مقارنة مع الأعداد الهائلة من الفقهاء. الفقه الإسلامي محصور فقط في الإنسان ونشاطاته لأنه يختص بالحلال والحرام، أما الفكر الإسلامي فواسع باتساع الكون. إنه يختص بقضايا الحق والباطل، أي بآيات الله التي يتطلب فهمها واستيعابها منهجية علمية، وتفكيرا علميا لا يخرج عن المنطقين العلمي والجدلي.

الفكر الإسلامي يهتم بالكليات الكونية والحقائق العلمية، ولا يدخل في نقاشات فقهية لا مردود لها على الأمة الإسلامية، إنه ينشغل بقضايا كبيرة تتطلب اتساع الأفق والجهد العلمي والمنطق الجدلي الرصين. لقد غاب المسلمون عن الفكر الإنساني طويلا لأنهم حاربوا الفكر، ومنهم من اعتبره كفرا.

إنهم يقولون إن الله قد قدم لنا كل شيء ولا ضرورة لكي نُتعب رؤوسنا في التفكير والاكتشاف والاختراع. في حين أن الفكر هو موجه الفقه، وإذا غاب الفكر غاب الفقه المنطقي وانزوى الدين نحو الكهنوت، وفقد قيمته في توجيه سلوكيات وتصرفات الناس. وهذا واضح على أرض الواقع من حيث إن أغلب الناس يرددون أن هذه الأمة لا تصلح إلا بالإسلام، ولكنهم لا يطبقون ما يتوقون إلى رؤيته.

ثانيا: التمييز بين الحكم الفقهي والحكم الشرعي؛ فهناك فائض من الفتاوى على الساحة الإسلامية، وصار أغلب من يطلقون اللحى ينصّبون أنفسهم مفتين وهادين للناس.

وهنا يجب أن نميز بين الحكم الفقهي والحكم الشرعي؛ فالحكم الشرعي هو ما يستند إلى نصوص قرآنية قاطعة مانعة وغير خاضعة للأمزجة الشخصية، أما الحكم الفقهي فهو الحكم الذي يصدر عادة عن فقهاء ولا يستند بالضرورة إلى نصوص. إنه عبارة عن اجتهادات قد تكون صائبة وقد لا تكون، لكن المسلمين ليسوا ملزمين بها. إنهم ملزمون بالحكم الشرعي وليس بالحكم الفقهي. ولكي يكون الحكم الفقهي ملزما من الضروري تشكيل مجلس إسلامي أعلى من فقهاء ومفكرين وأساتذة في مختلف مجالات الحياة، مثل الفيزياء والأحياء والفلسفة وعلماء المنطق وعلم الاجتماع وعلم السياسة والاقتصاد.

وهذا مجلس يكون مخوّلا بتلقي سيل الفتاوى والهموم والمشاكل التي تتطلب حكما إسلاميا ليدرسها ويصدر حجته النهائية بشأنها. وهذا مجلس لا يشكله السياسيون ولا قادة الدول، وإنما يتم تشكيله بالانتخاب بعد تحديد جمهور المنتخبين على اتساع العالم الإسلامي.

ثالثا: إعادة صياغة المناهج الدينية التي تدرِّس في الغالب العنصرية وكراهية الآخرين واعتباهم كفارا، وتدرس احتكار الجنة والحور العين... إلخ. يجب تدريس التسامح الإسلامي وقبول الآخر والاستعداد للعمل معه، فالفوقية مرفوضة، وكذلك الاحتكارية.

ومن الضروري وضع قوانين مستندة إلى تعاليم إسلامية لمحاسبة كل من يفتي بما لا يعلم، أو يزيغ في فتواه، أو ينصّب نفسه وكيلا عن هذه الأمة ومتحدثا باسم الرب. لقد انتهى زمن التفويض الإلهي، ويجب ألا نعيد له الحياة حتى لا تقع حروب داخلية مدمرة كما حصل في أوروبا. أي أنه لا مفر من الإصلاح الديني، وتشكيل قيادات دينية تكون قدوة للناس جميعا. وهذا لا يؤدي إلى قيام دولة دينية، وإنما يؤدي إلى الالتزام بمنظومة قيمية إنسانية تعلو على منظومات غير إسلامية. والسباق بين الإسلام وغيره يجب أن يتركز على الالتزام الأخلاقي وليس على القتل وسفك الدماء. المصدر : الجزيرة