وحـدة الأمـــة
( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً )
وأما عن وحدة الأمة فقد أبنتُ أن الإسلام الحنيف يفترضها افتراضًا , ويعتبرها جزءً أساسياً في حياة المجتمع الإسلامي لا يتساهل فيه بحال , إذ أنه يعتبر الوحدة قرين الإيمان (إنما المؤمنون أخوةً) , كما يعتبر الخلاف والفرقة قرين الكفر كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100).
أي بعد وحدتكم متفرقين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض) فعبر بكلمة الكفر على الفرقة والخلاف وأن يضرب بعضهم وجوه بعض .
وأعتقد أن الحكم النيابي – برلمانيًا وغير برلماني - لا يأبى هذه الوحدة , وبخاصة إن كان لون الحياة الاجتماعية واحداً في أصوله واتجاهاته العامة , كما هو شأن الأمة الإسلامية جميعاً في هذه الأيام , وإنما لازمت الحزبية والفرقة والخلاف هذا النظام النيابي في أوربا وغيرها , لأنها نشأت على أنقاضها , وكانت الخلافات المتكررة الدامية بين الشعوب وحكامها هي السبب في نشأته فعلاً مع تباين المشارب واختلاف الآراء ... أما الأمم الإسلامية فقد حماها الله من ذلك كله , وعصمها بوحدة الإسلام وسماحته من هذا التبلبل والاضطراب .
ومع هذا فإن الحكم النيابي في أعرق مواطنه لم يقم على هذه الحزبية المسرفة , فليس في انجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان فيها الأمر , وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة , وتجمعهما دائمًا المسائل القومية المهمة , فلا تجد لهذه الحزبية أثرًا البتة , كما أن أمريكا ليس فيها إلا حزبان كذلك لا نسمع عنهما شيئًا إلا في مواسم الانتخابات , أما فيما عدا هذا فلا حزبية ولا أحزاب , والبلاد التي تطورت في الحزبية وأسرفت في تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها في الحرب والسلم على السواء , وفرنسا أوضح مثال لذلك .
وإذا كان الأمر كذلك , وكانت وحدة الأمة أساسًا في النظام الاجتماعي الإسلامي ولا يأباه النظام النيابي فإن من الواجب أن نتحول سريعًا إلى الوحدة بعد أن أهلكت الحزبية في مصر الحرث والنسل .
الأحزاب المصرية
لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى , وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن , وأنها ليست أحزابًا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا , فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة , اقتضت الظروف في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية , كما انعقد الإجماع على أن هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج , ولا خلاف بينها في شيء أبدًا إلا في الشخصيات , وآية ذلك واضحة فيما تعلن من بيانات خارج الحكم وفيما تطلع به من خطب العرش داخل الحكم , وبما أن الأحزاب هي التي تقدم الشيوخ والنواب , وهي التي تسيّر دفة الحكم في الحياة النيابية فإن من البديهي ألا يستقيم أمر الحكم وهذا حال من يسيّرون دفته .
وهذا الكلام الذي انعقد إجماع الأمة عليه , أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء ودستوريون في صراحة ووضوح , ومن قرأ ما كتبه علوبة باشا في كتابه (مبادئ وطنية) , أو الأستاذ حسن الجداوي في كتابه (عيوب الحكم في مصر) أو غيرهما من الكتاب , رأى صدق ما نقول , وحسبنا هنا أن ننقل فقرة من كتاب الفقيه الدستوري للأستاذ سيد صبري (مبادئ القانون الدستوري) عن الأحزاب المصرية قال : (والواقع أنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية في مصر برنامج يدافع عنه أنصاره , بل أصبح كل حزب عبارة عن وزير سابق له أنصار ومريدون , ولهذه النتيجة أهميتها , فإن الانتخاب لن يقوم على المفاضلة بين البرامج , فقد أصبحت واحدة للجميع , بل سيقوم على الثقة بالأشخاص أو المفاضلة بينهم , وستكون الانتخابات شخصية لا حزبية بالمعنى المفهوم لدى الشعوب الغربية , وبديهي أن بقاء الأحزاب على هذا المنوال يقسم البلاد شيعًا وأحزابًا ويثير الشقاق والمنازعات بين الأفراد والأسر بلا سبب مفهوم ولا أساس معقول.
وإذا أضيف إلى هذا أن مصر ما زالت بلدًا محتلاً إلى الآن , وأن الذي يستفيد من هذه الفرقة هم المحتلون الغاصبون فقط , وأنه إذا استسيغ الخلاف – وهو غير مستساغ بحال – في أمة من الأمم , فإن أمة وادي النيل هي أحوج ما تكون إلى أكمل معاني الوحدة لتتجمع قواها في نضال الاستقلال وفي عمل الإصلاح الداخلي , إذا أضيف هذا كله كان الأمر أخطر من أن يهمل أو يستهان به .
حل الأحزاب المصرية
ولا أدري إذا كان الأمر كذلك فلا أدري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها الأحزاب السياسية؟
إن الأمر خطير , ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو مؤقتة لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد , فيئسوا وأخفقوا , ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول , ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعًا وتجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريته , ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام , ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي يفرضها الإسلام .
احترام رأى الأمة
( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) النور
نظام الإنتخابات
وأما عن احترام رأى الأمة , ووجوب تمثيلها واشتراكها في الحكم اشتراكاً صحيحاً ، فإن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفرادها جميعاً في كل نازلة ، وهو المعبر عنه ، في الاصطلاح الحديث بالاستفتاء العام ، ولكنه اكتفى في الأحوال العادية (بأهل الحل والعقد) ولم يعينهم بأسمائهم ، ولا بأشخاصهم ، والظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن هذا الوصف ينطبق على ثلاث فئات هم :
1 - الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام .
2 - وأهل الخبرة في الشؤون العامة .
3- ومن لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤوساء المجموعات .
فهؤلاء جميعاً يصح أن تشملهم عبارة "أهل الحل والعقد" .
ولقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة ، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد ، وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم تحديد الانتخاب صفات أهل الحل والعقد ، وعدم السماح لغيرهم بالتقدم للنيابة عن الأمة .
عيوب نظم الإنتخابات في مصر
ونحن في مصر قد أخذنا بنظام الإنتخاب المباشر تارة في قانون سنة 1923 , وبنظام الإنتخاب على درجتين في قانون سنة 1930 , وكلاهما في الواقع لم يحقق الغرض المقصود منه , وظهر له حين التطبيق عيوب يجب أن نعمل على إصلاحها بتعديل شامل , وليس الخطأ عيبًا في ذاته , ولكن الرضا به والاستمرار عليه والدفاع عنه هو الخطأ كل الخطأ .
ولقد شعر الجميع بقصور قانون الانتخابات الحالي عن الوفاء بالغرض الذي وضع من أجله وهو الوصول إلى اختيار الصالحين للنيابة عن الأمة ، ووجهت إليه انتقادات مرة كشفت عن كثير من العيوب وأهمها ما ذكره الدكتور سيد صبري في كتابه (مبادئ القانون الدستوري) : (أنه أوجد هيئة ناخبة لا يمكنها تحقيق الغرض من الانتخابات على الوجه المطلوب ، وأنه لم يحقق فكرة تمثيل الأمة تمثيلاً صحيحاً ، وأنه لم يصل إلى إيجاد هيئة تعمل للصالح العام مجردة من كل قيد ... ) وقد أورد بعد ذلك إحصائية دقيقة خلص منها بالأرقام إلى أن قرارات البرلمان المصري في أدواره المختلفة لا تعبر عن رأى الأمة ولا عن رأى أكثريتها ، ولا عن رأى أقلية محترمة عن أبنائها , وإنما تعبر عن رأى نسبة ضئيلة من مجموع من له حق الانتخاب , لم تصل يومًا إلى 12% وبيان ذلك :
أن مجلس نواب سنة 1936 لا تمثل قراراته – مع أنها صحيحة ونافذة بحكم القانون – إلا 10.75% من هيئة الناخبين .
ومجلس سنة 1929 نسبة التمثيل فيه 9.25% .
ومجلس سنة 1936 النسبة فيه 10.75% .
ومجلس سنة 1938 النسبة فيه 11.75% .
ومجلس سنة 1942 النسبة فيه 9.75% .
فكيف يقال بعد هذا إن ذلك تعبير عن رأي الأمة وتمثيل لها تمثيلاً صحيحًا؟!
تعديل وإصلاح
لا بد من تعديل وإصلاح لقانون الانتخاب ، ومن وجوه هذا الإصلاح الضرورية :
1 - وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم ، فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح ، وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهم من الصفات والمناهج الاصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة ، وهذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر ، وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها .
2 - وضع حدود للدعاية الانتخابية ، وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود ، بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعاني الشخصية البحتة التي لا دخل لها في أهلية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية .
3 - إصلاح جداول الإنتخابات ، وتعميم نظام تحقيق الشخصية ، فقد أصبح أمر جداول الانتخابات أمراً عجباً بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والأغراض الحكومية طول هذه الفترات المتعاقبة ، وفرض التصويت إجبارياً .
4 - وضع عقوبة قاسية للتزوير من أي نوع كان ، وللرشوة الانتخابية كذلك .
5 - وإذا عدل إلى الانتخابات بالقائمة ، لا الانتخاب الفردي كان ذلك أولى وأفضل ، حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم ، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية في تقدير النواب والاتصال بهم .
وعلى كل حال فأبواب الإصلاح والتعديل كثيرة ، هذه نماذج منها ، وإذا صدق العزم وضح السبيل ، والخطأ كل الخطأ في البقاء على هذا الحال والرضا به ، والانصراف عن محاولة الإصلاح .
الواقع الحالي
( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً )
عرضت في الكلمات السابقة لدعائم الحكم الصالح الثلاث في النظام الإسلامي أو النيابي على السواء , وهي :
1 – مسؤولية الحاكم .
2 – ووحدة الأمة .
3 – واحترام إرادتها .
وأشرت في إيجاز بالغ إلى نواحي الغموض في التشريع , والقصور والفساد في التطبيق , في أسلوب الحكم الذي جربناه منذ صدور الدستور المصري إلى الآن , وقد كانت نتيجة هذا الغموض والقصور والفساد ... ما نحن عليه الآن من حيرة قلق وارتباك , وما وصلنا إليه من فرقة وتمزق وشتات .
ضعف الحكومات
لا يجادل أحد في أن الحكومات المتعاقبة قد ضعفت عن أداء واجبها ، وفقد معظم هيبتها في النفوس كحكومة , بسبب هذا التجريح بالحق وبالباطل الذي تمليه الروح الحزبية البحتة ، وبسبب هذا العجز الناتج عن عدم تحديد المسؤولية والاضطلاع بها كاملة غير منقوصة ، ولولا أن النفوس في مصر مطبوعة بطابع الطاعة والاستسلام ، والأعمال تسير بطريق روتيني لا تجديد فيه ولا ابتكار .. لتعطل كل شئ ، ولعجز الدولاب الإداري المضطرب عن أن ينهض بحاجات الشعب أو أن يؤدى للناس عملاً.
هيبة القانون
ولا شك أن سلطان القانون قد تزعزع وفقد معظم احترامه كذلك ، بسبب هذه الاستثناءات والمحسوبيات والحيل المتكررة ، والاعتداء أحياناً بنسخ القانون لغرض شخصي .. ولو أن هذا النسخ بقانون في ظاهر الأمر , ولكن الدوافع تكون معروفة دائماً ولا تخفى على أحد ، فيعمل ذلك عمله في النفوس وينال من هيبة القانون واحترام النظام .
حزبية عمياء
ولا شك أن نار الخصومة والحقد قد اضطربت في نفوس الحاكمين والمحكومين على السواء ، بفعل هذه الحزبية الخاطئة , التي لم نفهمها نحن في مصر في يوم من الأيام على أنها خلاف في الرأي لا يفسد للود قضية , بل فهمناها عداوة وبغضاء تتعدى النظر في المصالح العامة إلى المقاطعة في كل الشؤون عامة وخاصة , وإلى أن نرى الحق في جانب خصومنا الحزبيين باطلاً , والباطل في جانب أنصارنا الحزبيين حقًا , ونصدر من هذا الشعور في كل تصرفاتنا وصلاتنا , ويستفحل هذا الداء ويستشري حتى في أحرج المواقف , فلا نستطيع أن نوحد صفوفنا في أي موقف قومي مهما يكن يتوقف عليه إصلاح أمرنا ومستقبل بلادنا .
وهذا الشعور البغيض , والفهم الخاطئ للحزبية الذي تحول إلى عداوة متأصلة , قد كان من نتائجه : أن انصرفت معظم الجهود الفكرية والعملية إلى أمرين استغرقا كل اهتمام رجالنا , وهما : الإيقاع بالخصوم الحزبيين واتقاء مكائدهم , فالحاكم يصرف جل همه في هاتين الناحيتين , والمعارضة لا تقل عن الحاكم اهتمامًا بها , وفي سبيل ذلك تضيع الحقوق وتتعطل المصالح , ويرثى الأصدقاء ويشمت الأعداء , ويستفيد الخصم الجاثم على صدر البلاد .
هذه الحال قد أنتجت التحطم في المعنويات ، والفساد والاضطراب في الماديات وقد بلغ الأمر منتهاه ولم يعد قوس الصبر منزع ، ولابد من تغيير حازم حاسم سريع .. فأما أن يفقه أولو الأمر هذه الحقيقة ويقدروها ، فيبادروا في سرعة إلى إجراء التغيير الصالح برأيهم وعلى أيديهم ، وفي ذلك السلامة والاستقرار ، ومازال في الوقت متسع للإصلاح ، وإما أن يظلوا في هذا الانصراف فتسبقهم الحوادث ، ويفلت من يدهم الزمام ، ولا يدري عاقبة ذلك إلا الله .
يا أولى الأمر في هذا البلد ..
ويا دولة رئيس الحكومة ..
ويا رجال الأزهر ...
ويا زعماء الأحزاب والهيئات والجماعات ...
ويا ذوي الغيرة على هذا الوطن الأسيف :
تداركوا الأمر قبل الفوات .. وأمامكم سفينة النجاة من نظام الإسلام .. ولله عاقبة الأمور .
ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد
الآراء