تجدَّد ذكر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في العالَمين مع شعور الغضب الذي اشتعل في أمته التي تمثل ما يقرب من ربع سكان العالم ردَّاً على الإساءة إليه. كان من أمثلة الامتنان الإلهي على الرسول محمد أن رفع ذكره: "ورفعنا لك ذكرك"، وطبيعة رسالته عالمية تتجاوز حدود قومه: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً". وفي ضوء هذه الحقيقة كان لا بد من تهيئة الطريق حتى تبلغ رسالته قلوب الناس من مختلف الأعراق والثقافات، فالمبادئ التي تتضمنها دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تعالج الإنسان من حيث جوهره الإنساني وتلامس مشكلاته الوجودية، وتقدم البلسم الشافي لعلل نفسه وروحه، وهي دعوة عابرة لحدود الجغرافيا ومتجاوزة لجدران الأيديولوجيا. إنَّ النبي محمداً ليس ملك العرب أو نبي الشرق الأوسط وحسب، بل هو إمام عالمي يوقظ أرواح الناس ويصلهم بخالقهم، ويدعوهم جميعاً إلى العدل وإلى صراط مستقيم، ويزكي نفوسهم ويهديهم إلى مكارم الأخلاق.

لكنَّ التباس دعوة الإسلام بظروف المواجهة والقتال منذ اللحظة الأولى ومدافعتها لمشاريع الهيمنة السياسية، وأطماع الدول الكبرى في التحكم بمصائر الناس؛ شوَّش الحقيقة الروحية لهذه الدعوة، وأقام جدراناً من التعصب وأكنَّةً على القلوب، فلم يعد كثير من الناس يرون هذه الدعوة على حقيقتها المبدئية الأولى، فأيقظت هذه الصور المشوهة الخوف أكثر مما غذَّت الشوق الروحي الذي يدفع الناس للإقبال.

وقد تفطن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم باكراً إلى أهمية أجواء السلام في نشر دعوة السماء، فقد خرج في مسير سلمي مع أصحابه بقصد أداء العمرة فلمَّا بلغه عزم قريش على منعه من دخول مكة قال: "يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين؟". هذه الكلمات تفيض برغبة السلام وتدلل بوضوح أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم لم يخض جولات القتال العديدة راغباً، بل كارهاً مضطراً: "كُتب عليكم القتال وهو كره لكم".

أما رغبته الطبيعية فكانت أن يبلّغ رسالة السماء إلى الناس دون حروب ودماء، لكن الواقع السياسي والاضطهاد الذي مارسه قومه والقبائل والقوى السياسية المحيطة هو الذي فرض مسار القتال. هذه الكلمات التي نطق بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هي التي تفسر مرونته الكبيرة في القبول بشروط قريش في صلح الحديبية، والتي كانت في ظاهرها مجحفةً للمسلمين، غير أن رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت أوسع من الحرص على بعض المكاسب الوقتية، فقد كان يتطلع إلى أعوام من الهدوء مع قريش كي يتاح للناس أن يفكروا بعقولهم حين يهدأ صليل السيوف.

وقد أيَّد الله تعالى هذا الرشد النبويَّ بتنزيل سورة الفتح بعد صلح الحديبية، والتي وصف فيها هذا الصلح بالفتح المبين: "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً". رُوي عن ابن مسعود قوله: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. هذا هو جوهر الرؤية القرآنية: الفتح ليس الغلبةَ العسكريةَ، بل هو وضع أوزار الحرب وإشاعة أجواء العقل والحوار التي تقود إلى فتح القلوب والعقول، وتمكِّن دعاة الدين من إبلاغه وتبيين رسالات الله إلى الناس، بينما أجواء العنف والفوضى هي العدو الطبيعي للحق والعقل، فلا يهتم أحدهم في تلك الأجواء بالاهتداء إلى الحق، بل يهتم بإعلاء صوته وإثبات ذاته وسحق خصمه: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون".

باستلهام هذه الروح القرآنية، فإن التحدي الحضاريَّ المعاصر للمسلمين هو إزاحة صورة الإسلام من دلالات الصدام والتعصب وإثارة الخوف؛ إلى معاني الطمأنينة والرحمة والهداية الروحية. ماذا تبقى من عالمية رسالة محمد؟ ليس من الحكمة تصوير الرسول محمد كما لو أنه رمز قومي خاص بالمسلمين، فيرى الآخرون فيه في أحسن الأحوال رمزاً لأمة أخرى، ولا يرون فيه هادياً ورحمةً للعالمين، أما في أسوأ الأحوال فيرون دعوته فوبيا "إسلام فوبيا" تنبغي مواجهتها، بدل أن يروا فيها فرصةً وثراءً روحياً ينبغي الانفتاح عليها. إن محمداً صلى الله عليه وسلم في منشأ دعوته، وكما تظهر مبادئه النقية، حامل رسالة عالمية تستهدف كل الناس في سبيل إخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن متاهات الحيرة إلى سبل السلام.

ما الذي ينبغي أن يعرفه غير المسلمين عن الرسول محمد؟ محمد هو حلقة الوصل الأخيرة والأشد نقاءً ووضوحاً بين السماء والأرض، لقد فتح للبشرية الغارقة في ظلماتها نافذةً من النور نحو السماء، ويمكن التأكد من صدقه بالتأمل في بنية دعوته وكتاب القرآن الذي جاء به، وفي قياس الأثر العظيم الذي أحدثه في التاريخ وفي نفوس مئات ملايين البشر. لم يحدث عبر التاريخ أن كان لكاذب مدَّع كل هذا التأثير. لقد جاء بكلمات نقية بسيطة متناسقة تعرفها الفطرة الإنسانية، خالية عن الغموض والتعقيد: "هذا العالم ممر إلى عالم الأبدية، وهذا الإنسان متصل بالمصدر الأعلى للوجود، وهذه الحياة ليست عبثاً، فمن يعمل الخير أو الشر سيلقى جزاءه، وهناك الإله الأحد الرحيم القادر السميع البصير الذي يعلم كل شيء، وإليه يرجع كل الناس فيحاسبهم عما كانوا يعملون.

محمد هو الرحمة للعالمين، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم وقطيعة رحم، ومن تجليات رحمته أن يرشد الناس إلى الحق وأن يعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأن يزكي نفوسهم ويسمو بأرواحهم وأخلاقهم من الأنانية والالتصاق بالدنيا إلى العطاء والتسامي. مبدأ العدل أساس راسخ في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إنه ليس عدلاً خاصاً بين المسلمين وحدهم، بل هو العدل لكل الناس: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وقد انتصر القرآن ليهودي على النبي محمد ذاته. كرم الإسلام الإنسان باعتبار إنسانيته، وقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلام لجنازة يهودي، وقال: "أليست نفساً".

الرسول محمد هو الذي أعاد للإنسان جوهره، فالإنسان لا يقاس فضله بطبقته الاقتصادية أو عرقه أو لونه، بل بسمو نفسه ونقاء قلبه: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وفي ميزان الإسلام الذي رسخته سيرة النبي محمد يصبح رجل فقير مثل عبد الله بن أم مكتوم وبلال بن رباح أثقل في الميزان من سادة قريش وكبرائها. أكد النبي محمد على المساواة الإنسانية ورفض التمييز العنصري، وهو المبدأ الذي لا تزال البشرية تناضل من أجل ترسيخه: لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مثال ملهم للسمو الأخلاقي، فقد تجسدت في سيرته أعظم الأخلاق؛ من الصدق والأمانة والوفاء بالعهد والإحسان إلى الجار والقريب والعطاء، والعفو عند المقدرة والرحمة بالضعفاء والتواضع والسعي في حاجة اليتيم والأرملة والمسكين. إن كل خلق من هذه الأخلاق من شأنه أن يخلص الإنسانية من عذاباتها ويدخلها في جنة الطمأنينة والسلام.

من إضافات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى التاريخ تحرير الإنسانية من صراع المادة والروح والدنيا والدين، فالحاجات الإنسانية المادية وفق التصور الإسلامي ليست مدنسةً، كما غالت في ذلك بعض المذاهب الروحية فشقت على الإنسانية طريقها إلى الله. إن الإسلام يراعي احتياجات الإنسان ويحثه على قضائها ويذكره بنعمة الله فيها، فيجمع الإنسان بذلك سعادة الدنيا والآخرة.

بعث الرسول محمد في بيئة تسودها روح القبيلة، ومع ذلك تمكن من إنشاء مجتمع مدني ووضع له دستوراً مدنياً لتنظيم العلاقة بين سكان المدينة من المسلمين وغير المسلمين، وبذلك قدم الرسول محمد نموذجاً باكراً في التاريخ على ثقافة التعايش والقبول بالآخر. بُعث الرسول محمد في بيئة تمزقها الحروب والدماء وثقافة الثأر، ومع ذلك انتصر على تلك البيئة، وضبط القرآن القتال إلا أن يكون رداً على العدوان والإخراج من الديار، وحرَّم الثأر، وألا تزر وازرة وزر أخرى. وقال في خطبة حجة الوداع: "إن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة". وربيعة الذي وضع دمه هو ابن عمه.

كان حريصاً على هداية الناس حتى كادت تزهق نفسه حزناً ألا يؤمن الناس، كان رحيماً بهم، لم يكن يغضب لنفسه وحين آذته الطائف وسلطت عليه سفهاءها، جاءه الملَك فقال له إن شئت أطبقت عليهم الجبلين، فأجاب رسول الرحمة: "لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله". بعد أن حاربه قومه ثلاثةً وعشرين عاماً وأخرجوه من بلده وقتلوا أصحابه وسعوا إلى القضاء عليه، ثم بعد أن انتصر عليهم وتمكن من رقابهم سألهم: "ماذا تظنون أني فاعل بكم؟"، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

لقد كانت نفسه كبيرةً، فلم تتسع لمشاعر الشحناء والانتقام وعفا عمَّن ظلمه وآذاه حين قدر عليه. في خطبته الأخيرة بعد أن دانت له الجزيرة العربية بالولاء وقبل أسابيع قليلة من رحيله عن هذه الدنيا، أوجز مبادئ رسالته أمام الناس، وكان مما قاله لهم:

أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه. فلا ترجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد. أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب.. أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.. قالوا نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب.

حتى في خطبته الأخيرة بعد أن أسلمت الجزيرة العربية، لم يكن منتشياً مفاخراً مسكوناً بشعور الإنجاز، بل كان لا يزال متفانياً في إبلاغ الرسالة فكان يسأل الناس الذين يستمعون إليه: "ألا هل بلغت؟". لم يكن يشعر بفخر الإنجاز، بل بثقل الأمانة التي حمَّله الله إياها. إن رجلاً عظيماً كرَّس حياته وجاهد بكل قوته حتى النفَس الأخير، لهداية الناس واستقامتهم وإقامة العدل؛ لهو جدير بأن تبلغ دعوته مشارق الأرض ومغاربها.