الحمدلله الذی شرّف منصب الفتوی أیّ تشریف إذ قام به سبحانه و تعالی فأفتی المستفتینَ. و الصلاة و السلام علی سیدنا محمد أولی و أعلمُ من قام بهذا المَنصبِ الشریف فکانت فتاویه جوامعَ الاحکام و فصلَ الخطاب و رضوان الله علی العلماء الربانیین الذین انتهضوا –علی مرّ العصور- للتوقیع عن رب العالمین و سید المرسلین فحفظوا علی الأمة معاقدَ الدین و معاقلَه و حموا من التغییر و التکدیر موارده و مناهله. مقدمة: إن مما تقرر من ثوابت شرعنا أنّ المفتي هو المبیِّن لحکم الله فی نازلة بعینها و هو بذلک موقِّعٌ عن رب العزة و مبیِّن لحکمه، فهو من ورثة الأنبیاء و من القائمین فی الأمة مقامَ النبی صلی الله علیه و سلم. و إنه لما کان التبلیغ عن الله سبحانه یعتمد العلم بما یبلِّغ، و الصدقَ فیه، لم تصلح الفتوی الا لمن إتَّصفَ بالعلم و الصدقِ، والصّلاح والتقوی، و یکون مع ذلک سلیمَ المنهج، مرضیَّ السیرةِ، عدلاً فی اقواله و افعاله، متفق السر و العلانیه فی مدخله و مخرجه وأحواله، و یحضرنی قول ابن القیم«رحمه الله» حین قال «إذا کان منصبُ التوقیع عن الملوک بالمحل الذی لا یُنکَر فضلُه، و لا یُجهل قدرُه، و هو من أعلی المراتب، فَکیف بِمنصبِ التوقیع عن رب الأرض و السماوات؟" إنَّ الناظر فی أمر الفُتوی الیومَ، و حال الإفتاء فی عالم الیوم یَجد فی کثیرٍ من الأحوال فَوضی عارمةً و تناقضاتٍ غریبةً، و تَعالیاً مُزریاً، و تعالُماً مُخزیاً، و جُرأةً عجیبةً، فهذا یهدم بفتواه اصلاً شرعیاً مقرراً، و ذا یُفتي فی نازلة لیس أهلاً لها، و ثالثٌ یفتي فتضحک الثّکلی لفتواه، و قد قال الرسول (ص): «ن من أشراط الساعه أن یُرفَعُ العلمُ و یُکثَرُ الجَهل» و بعض من یفتي ههنا أحق بالسجن من السُّراق کما قال ربیعة الرأی. و لهذا انتهی الرأی عند فقها المسلمین إلی وجوب الحِجرِ علی ثلاثة: المُفتيِّ الماجن، و المُکاری المفلس، و الطبیب الجاهل، فالأول یُفسِد الأدیانَ و الثانی یُفسد الأموال و الثالث یُفسِد الأبدان. لقد أثر عن سلف الأمة و علمائها التحرُّزُ من الفتوی و التوقِّي من الإکثار منها، إستشعاراً منهم لِخَطَرِها و عِظَمِ أمرها فقد أُثِرَ عن الصَّحابي الفقیه ابن عباس –رضی الله عنها- انه قال: «من أفتی عَن کُلِّ ما یُسأَل فهو مَجنُون» و لاشک أن هذا الخطورة التی ینبغی أن یستشرها کل من یتصدی للفتوی تتضاعف فی عصرنا المفتوح هذا، حیث یتعدّی أثرُ الفتوی إلی الأفراد و المجتماعات عَبرَ العالم فی لحظات معدودة عبرَ الفضائیات و مواقِعَ الإنترنت، و هو ما یوجب علی المفتي توقِّي الحذرِ البالغِ و مراعاة طبیعة الزمان و اتساع دائرة جمهوره علی نحوٍ قد لا یتصوره هو ذاته! و علی الرغم من هذه الخطوره نجد کثیراً یتجاسَرُ علیها، حتی امتلأت الساحةُ الإعلامیه بکثیر من المتصدِّین لها من غیر استعدادٍ و تأهُل کافیَینِ، ممّا أفرز عدداً وافراً من الأخطاء العلمیه و السلوکیات العجیبه، التی مَردُّ الأساس: عدم الانطلاق من المنهجیة العلمیة المنضبطة بقواعد السلم و أخلاقیات أهله الراسخین. أرید أن أستأذنکم فی أن أطرق مدخلاً عاما لموضوع هذه الحلقه فی صورة مسائل عشرٍ مما یدور فی فلک مَلَفِّ الفتوی المعاصر کما اهتم بها و ألقی الأمین العام للمرکز العالمی الوسطیه، الأستاذ الدکتور عصام البشیر فی ندوة «الإفتاء فی عالم مفتوح» و ها هی هذه المسائل المطروحة: «المسألة الأولی: أتساءل فی ظل انقسام أمّتنا المؤسف علی نفسها، عن مرجعیة الفتوی، أین هی؟ أهی کما یعتقدُ الغلاة من أهل التکفیر و التفجیر، عند «علماء الخنادق» الذین لا یرون إلا «الحرکة» لتغییر الواقع و إن بالقوه... أم عنده «فقها الفنادق» الذین لا یکادون یغادرون مقاعدهم الوثیرةَ تنظیرا و کلاما؟! أم إنّها یجب أن تکون عند «حملة العلم العدول» المبتغین وجهَ الرحمن لإرضاء السلطان... الذین ینفون عن العلم تحریف الغالین و انتحال المبطلین و تأویل الجاهلین؟! الثانیة: کیف السبیل إلی التوسط بین طرفی النقیض: الجُفاة... المعرضین عن علماء الشریعة بحجة قصورهم عن مسایرة العصر و مقتضیاته فی صدّ العدوان، والغزاة... الراغبین فی فتاوی تکرِّس إسلاماً مستأنساً لیس له فی القوة من نصیب و إن صَغُر؟! الثالثة: کیف السبیل إلی مواجهة العلماء الموقِّعین عن رب العالمین تحدِّی الوقوع بین مطرقة ضغط الحکام و سندان أهواء العوام؟! کیف السبیل إلی أن تکون الفتوی خالصة لوجه الله الکریم وَفقاً للمنهجیة العلمیهة المنضبطة و حسب... من غیر میلٍ رغبةٍ حاکمٍ ولا إلی هَویً عامّة؟! الرابعة: کیف السبیل إلی التعامل مع واقع زمانٍ تنبسطُ فیه مَساحةُ المجهول طَرداً مع تزاید تدفُّقِ المعلومات، بحیث غداً صعباً جداً علی الفقیه الفرد مهما بَلُغَ ذکاؤُهُ و عَلَت هِمَّتُهُ أن یوازن فیه بین اتساع المعارف و العلوم اتساعاً هائلاً و بین واجب مواکبة تطورات الحیاه و احتیاجات الناس إلی هدی الشرع فیها؟! الخامسة: و هی متصلة بسابقتها... کیف السبیل إلی قراءة التراث قراءةً قویّةً: تحترمه... بوصفه انجازاً بشریاً حاول فیه اسلافُنا تقدیم أفضل ما عرفوه و رأوه نافعاً للفرد و الامةِ فی زمانهم، و تتعامل معه دون تقدیس و لا تبخیس، و دون الاستنامة الیه أو القطعیة معه... بل بالنظر الفاحص و التأمل الواعی، والقراءة الناقدة... تقدیراً للجهود المبذولة فیه، و تسدیداً لخطئها و إکمالا لنقصها، و لنبني علیها من ثمَّ بما یستوعب تغیّر الزمان و الأحوال – ثقافة معاصرة تناسب انسان هذا الزمان و تواکب تطورات الحیاه المتلاحقة. السادسة: کیف السبیل إلی إقالة الأمة من عَثرتها الحضاریة الألیمة بتضعیل آلیة الفتوی فی تهئیة المناخ لاستعادة لحمة الأمة و الموازنة بین اهتمام واجب بدارستة «نواقض الوضوء» مثلاً و اهتمام أوجب بدراسة «نواقض الحضاره و العمران» التی یجب أن تتطهّر منها الأمّة عاجلاً غیر آجل، من أجل استعادة دورها المنشود فی رکب الإنسانیة العام و تقدیم بدیلها الربانی : العقل الأذکی، و القلب الانقی، و الخُلق الأزکی، و الفطرة الأسلم و السیرة الأحکم؟! السابعة: کیف السبیل إلی العمل علی تحقیق واجب الإتحاد دون الإخلال بمشروعیة الإختلاف...بل مع حسن استغلال سَعةِ التنوّع الخلاق؟! الثامنة: کیف السبیل إلی تکریس آداب الحوار و أخلاقیات الإختلاف... بحیث لا یصیر الحوار تحارشاً و لا یغدوا الإختلاف خلافاً و بحیث یتأسَی علماؤنا بمثل صنیع الشافعی –رضی الله عنه- إذ کان یأخذ بِیدِ مُناظرهِ و یعانقه قائلاً: ألا یصلُح ان نکونَ إخواناً و إن إختلفنا فی مسألة؟! التاسعة: کیف السبیل إلی مدِّ خیط المنهجیة المنضبطة فیما یفتي فیه مفتوناً و یبحث فیه باحثونا... فنمیز تمییزاً واضحاً بین قضایا الأمة الجامعة و نوازلها العامة التی لا یجوزان یستقل بالفتوی فیها عالمٌ منفرداً ]من غیر مصادرةٍ لحق کل ذی رأی فی إبداء رأیه] و قضايا الأفراد اليومية و مسائلهم الفرعیة التی قد یُحسِن التصدي لها من له أثارة من عِلم؟! ثم... نمیز تمییزاً واضحاً بین خطاب «الأمة الاجابة» من المسلمین و المسلمات، و خطاب «الأمة الدعوة» من غیر المسلمین فی أربعة انحاء الأرض... بما یقتضیه هذا من إتقان لسان کل قوم [المقالیّ و الحالیّ جمیعاً] و البصر یناسب کلا من قضایا و لغة و اداة تواصل و تبلیغ؟! العاشرة و الاخیرة فی مقامنا هذا: کیف السبیل إلی «مأسة» عملیة الفتوی، علی مستوی الأمة ککلّ، لتکون صادرة عن إجتهاد جاعی یناسب طبیعة زماننا لاسیّما فیما یتعلّق بقضایا الأمة العامة؟ ثم کیف السبیلُ إلی أنَّ تأمین استقلالیة مؤسسات الفتوی المنشودة هذه بأن تکون لها مواردُها المادّیةُ الخاصةُ التی تحفظ لها الإنسیاق وراء هویً من ذات الیمین أو من ذات الیسار، و لتکون للفتوی الصادر عنها مصداقیَّتَها و تأثیرها فی واقع الناس الذین لاتنفضهم الفِطنَةُ لإستشفاف الصادق من سواه ممن یتصدرون للشأن العام؟! و لنعد فی أصل المقالة و نقول: الإفتاء امرٌ عظیمٌ حقاً، و المفتی کما یقول الشاطبي، قائم مقامَ النبیّ فی تبلیغه عن الله و شارع من وجه فی الأحکام المستنبطة، بل إنّ المفتي کما یعبِّر ابن القیم الجوزیة، مُوقِّعٌ عن الله عزوجل... کالذین یوقِّعون عن الملوک فتُعتمد توقیعاتهم! و تظهر أهمیته هذا المنصب عندما أن الأمة الإسلامیة هی التی تبحث عن أحکام دینها و أوامر ربها و نواهیه لتلتزم بها فی عبارتها و معاملتها! الأمة الوحیدة التی تسأل عن الحلال و الحرام هی الأسلام! و المشکله فی عصرنا کما قال الدکتور یوسف القرضاوی أنَّه دَخَل میدان الفتوی من یُحسِن و مَن لایُحسِن و أصبح کلاً مباحاً لکلّ من استطاع أن یخرج علی الناس فی فضائیة من الفضائیات! والواحد من هولاء یفتی فی مسائلً لو عُرضَت علی عمر لجمع لها أهل بدر! حتی إنَّ بعضَ الشباب طریِّ العودِ من ابناء الصحوة بمجرد أن یقرا کتاباً او کتابَین یتجرأ علی مناطَحَةِ الأئمةِ! و إذا قیل له: هذا خلاف ما قال سعید بن المسیب أو أبوحنیفة أو مالک، یقول: هم رجال و نحن رجال! و قد رأیت -والله- أناساً یقتحمون هذا المیدان و هم خِلوٌ من أیّ شرط من شروط الإفتاء الخُلقیة و العلمیة جمیعاً! یجترئون علی الخوض فی دین الله و یقولون علی الله الکذب و هم یعلمون أو لا یعلمون! فی متقابل هذا الإجتراء و التقهم.... ماذا کانت طریقة سلفنا الصالح؟ کانوا یتحاشون الجواب عن کلِّ سوال... حتی إن عالم الأمة عبدالله بن مسعود –رضی الله عنه- کان یقول: «إنّ الذی یُفتي فِی کُلِّ مَسألة لَمَجنون»! و کانوا یتجنّبون الفتوی ما استطاعوا و یودُّ أحدُهم لو أن أخاه کفاه مؤنتها! و کانوا یتهیّبونها... حتی إنّ ابن عمر کان یقول: «یریدون أن یتخذوا ظهورَنا جسوراً إلی جهنم»! و کان عمر نفسه یقول «أجرؤکم علی الفُتوی أجرؤکم علی النار»! و قد رأی أحدهم ربیعة بن عبدالرحمن، شیخ الأمام مالک، یبکی... فسأله: ما یبکیک؟ قال: «ظهر فی الإسلام أمر عظیم... اُستُفتِیَ مَن لا علمَ له! و لبعض من یفتی الیوم أحقُّ بالسِّجنِ من السُّرّاق»! هذا فی زمان التابعین فکیف إذا رأی زماننا؟ إن أمر الفتوی عظیم! و إن معظم الفتاوی الشاذة یأتی من غیر المتخصصین و من الدخلاء علی الفقه... و لذلک لابد أن نضع الضوابط و القواعد من المعالم لمن یدخل هذا المیدان و یقوم مقام رسول الله -صلی الله علیه و سلم- و نحن فی حاجة إلی أن نتعلم کیف نستفتی و کیف نفتي... إننا نری الناس یلحّون فی السؤال عن المسائل التافهة کمسائل الوضوء و الغسل و اللِّحیة، و لایکادون یسألون عن عظائم الأمور التی تهمّ جمهور الأمة! لا نکاد نری من یسأل: ما حکم تزویر إرادة الأمة و اللعب بالإنتخابات؟ ما حکم أخذ الناس من بیوتهم إلی المعتقلات بلا جریرة و لا حکمٍ قضائی؟ ما حکم المدنیین أمامَ محاکم عسکریة و الأمنیة؟ ما حکم منح إحتکارات و امتیازات لطبقة من الناس تأکل الثروة من غیر أن یکون للشعب منها نصیب؟ یجب علی الأمة أن تهتم بالسؤال عن مثل هذه الأمور الجلیلة، کما یجب علی العلماء ان یُبَیِّنوا الحق و لا یکتموه... کیف لا و قد أخذ الله تعالی العهدَ علی علماء أهل الکتاب من قبلنا «لیبیننه للناس و لا یکتمونه؟!» یجب علی العالم أن یتثبّت و یتحرّی و ألا یتکلم فیما لا یُحسن و أن یُدرّب نفسَه علی ثقافة «لا أدری» و القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة، سأله بعضهم عن شئ فقال: لا أُحسنُهُ، فقال له السائل: جئتُ إلیک من کذا و کذا... فکیف لا تُحسنُه؟! فقال: «لا یَغُرَّنَّک طولُ لحیتی و لا کثرةُ الناس حولی... والله لا أحسنُهُ!» وفقنا الله جمیعاً إلی مافیه خیرنا و خیر أمتنا و البشریة جمعاً... و السلام علیکم و رحمة الله وبرکاته.