امتحانات الدنيا مكاسبها وخسارتها محدودة، أما امتحانات الآخرة فمكاسبها فوز عظيم والرسوب فيها خسران مبين، امتحانات الدنيا يسبقها كتب وأساتذة ومحاضرات، وأبحاث وواجبات، وامتحانات الآخرة يسبقها رسل ووحي ونفس وعقل وهوى وإغراءات وابتلاءات، امتحانات الدنيا لا تعرف معالمها سلفا فتقوم على التخمين و"التنشين" والاحتياطات، وامتحانات الآخرة تقوم على الواضحات والبينات من الواجبات والمحرمات والمندوبات والمكروهات والمباحات، امتحانات الدنيا أسئلتها مجهولة، أما امتحانات الآخرة فأسئلتها معلومة في أربعة جوانب: "عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله فيما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه"، امتحانات الدنيا يُعرف سلفا للأساتذة والطلاب مكانها وزمانها، وامتحانات الآخرة لا يعلم إلا الله مكانها وزمانها: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (الأعراف:34)، امتحانات الدنيا قد ينجح فيها الإنسان بالغش والخيانة والتزوير، أما امتحانات الآخرة فلا نجاح فيها إلا بالإخلاص والصدق والعمل المستقيم، امتحانات الدنيا تختلف باختلاف التخصصات والمستويات من الحضانة إلى الجامعات، أما امتحانات الآخرة فهي واحدة للرجل والمرأة، للغني والفقير، للحاكم والمحكوم، للعالم والجاهل، ولكل إنسان بالغ عاقل، امتحانات الدنيا يمكن أن يستعد لها الإنسان قبل الامتحانات بأيام، لكن امتحانات الآخرة لا يُعرف لها وقت فنحتاج إلى الاستعداد لها من الآن، لقوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) (الأنبياء:1)، امتحانات الدنيا قابلة للإعادة مرة ومرات، أما الامتحانات الآخرة فإذا قال الإنسان: (رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) (المؤمنون: 99 -100)، يأتي النداء حاسما: (كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:100)، امتحانات الدنيا يتراص الطلاب والممتحنون في صفوف على مقاعد متقاربة، أما امتحانات الآخرة فيَفِرُ الناس من بعضهم: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ  * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (عبس: 35-37)، امتحانات الدنيا يصححها الأساتذة، وامتحانات الآخرة يقوِّمها رب العالمين سبحانه وتعالى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (الكهف:48)، وفي الحديث الذي رواه البخاري: (ما منكم إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبين ربه ترجمان).

امتحانات الدنيا يجريها العباد للعباد، وامتحانات الآخرة يجريها رب العباد للعباد، امتحانات الدنيا في مادة واحدة، وامتحانات الآخرة تشمل كل شيء: شبابا وعمْرا ومالا وعلما، لقوله تعالى: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، امتحانات الدنيا كل عدة أشهر، وتتدرج من الامتحانات في الابتدائية حتى امتحانات الماجستير والأستاذية، وامتحانات شغل الوظائف القيادية، لكن امتحانات الآخرة فتكون مرة واحدة؛ يعقبها جنة أبدا أو نار أبدا، امتحانات الدنيا تنقل الإنسان من فصل إلى آخر، ومن درجة وظيفية إلى أعلى، وامتحانات الآخرة إما درجات في الجنة: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) (آل عمران: 163) أو دركات في النار والعياذ بالله: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (الحجر:44)، امتحانات الدنيا فيها مراقبون من البشر وأساتذة ومشرفون، وامتحانات الآخرة يديرها الحسيب الرقيب الواحد الأحد فإن أنكر العبد شيئا تشهد عليه ملائكته الكرام، واللحم والعظام، والأرض والأنام، امتحانات الدنيا تطول وتطول، ويصول فيها الإنسان ويجول، أما امتحانات الآخرة فالله سريع الحساب، ويحاسب العباد جميعا في لحظة واحدة كما يرزقهم في لحظة واحدة، امتحانات الدنيا فيها الوساطات والأخطاء في تقدير الدرجات، والمظالم في وضع العلامات، أما امتحانات الآخرة فشعارها: (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر:17)، امتحانات الدنيا يُشغل بها الممتحَن وأمه وأبوه وأخته وأخوه، أما امتحانات الآخرة: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:95)، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس: 35-37)، امتحانات الدنيا فيها الرأفة لمن لم يصل لدرجة النجاح في حد لا يزيد عن 20% من الدرجة الكلية للنجاح، وامتحانات الآخرة فيها الشفاعة لمن لم يصل إلى الفلاح، يقودها النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً بين يدي ربِّه، متبتلا إليه (رب أمتي) حتى يرضيه الله في أمته فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

امتحانات الدنيا حصادها فانٍ، وامتحانات الآخرة حصادها باقٍ، فلنؤثر ما يبقى على ما يفنى: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى ) (الضحى:7).

والفلاح كل الفلاح أن نحوز الفوز والنجاح في امتحانات الدنيا والآخرة معا: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201).

المصدر: موقع الدكتور صلاح سلطان، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية