السياسة هي فن الممكن، والخساسة فن المجرم ، السياسة كما يسميها أبو حنيفة هي أحسن ما قدرنا عليه، والخساسة هي "هبش " كل ما قدروا عليه ، السياسة الشرعية تعني عند الماوردي الشافعي والفراء الحنبلي: "القيام بواجب الخلافة عن النبوة في حفظ الدين وسياسة الدنيا"، والخساسة هي خلافة عن شياطين الإنس أو الجن أو كلاهما في هدم الدين وتخريب الدنيا، السياسة الشرعية عند الجويني إمام الحرمين هي: "حفظ ما حصل، وتحصيل ما لم يحصل"، يعني الحفاظ على المكتسبات وتشجيع الإبداع والابتكارات؛ لتظل أمة الإسلام في تطور مستمر، أما الخساسة فهي ضياع المكتسبات و وأد الابتكارات لتعيش أمتنا في تأخر مستمر، السياسة هي أن ينوب الحاكم عن الأمة، حتي ناداه بعض علمائنا: السلام عليك أيها الأجير، ولم يمتعض الأمير حيث يقوم بخدمة أُمته و"خادم القوم سيدهم"، أما الخساسة فتجعل من الحاكم وكيلا عن أعداء الأمة في النقير و القطمير، ويعامل الأمة كأنهم خدم عنده، السياسة أن تراعي الأصول العقدية والأخلاقية والتشريعية والأعراف الاجتماعية، والخساسة هي إهمال كل الثوابت الدينية، والجري وراء الفلسفات العالمية والانحرافات الخارجية وجلبها إلى المجتمع بعد ليِّ عنقه كي يقبل بالطبخة الأجنبية، السياسة هي استيعاب كل الطاقات الوطنية وتوظيفها في أحسن المواقع القيادية، والخساسة هي اعتقال و"تطفيش" الطاقات الوطنية، وزجِّها في السجون والمعتقلات أو طردها إلى الدول الخارجية كي تريِّح البلاد والعباد من مشاريعهم القوية، السياسة تعتمد الوضوح مع الشعوب والمجتمعات، والصراحة في المُلمات، والخساسة التواء وكذب وخداع للشعوب، واللعب بالعواطف والأرقام، حتى تفيق الشعوب على خراب مالطة، ويبقى أقطاب الخساسة يكذبون ويدلسون، السياسة أن يُكرم أهل العلم والفضل والخبرة والحنكة، والخساسة أن يهان ذوو العلم والفضل والخبرة، السياسة أن تصان النساء عن الامتهان، وتتفرغ لتربية الرجال، وتساهم في بناء مجتمعها دون سفور وابتذال، والسياسة العربية حتى لو طغت تبقى محافظة على حرمة البيوت، حتى إن أبا جهل يستغرب طلب أحد "فتواته" ليلة الهجرة: لِم ننتظر محمدا حتى يخرج من بيته فتقتله؟، فلندخل عليه بيته، فغضب أبو جهل وقال : أتحبون أن تتحدث العرب أننا فزَّعنا بنات محمد؟!!!، أما الخساسة فقد أنتجت قوما يقتحمون البيوت على النساء والفتيات والأطفال ويعتقلون الحرائر والقاصرات، بل يهتكون الأعراض للضغط على الدعاة الأحرار.

السياسة هي قيادة راشدة لشعوب واعية، والخساسة هي قيادة طائشة لشعوب مستعبدة، السياسة هي احترام لآدمية الإنسان وتقدير لحق الحياة ولو كانت لحيوان "لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لِمَا لم تسوِ لها الطريق يا عمر"، والخساسة يرى الحاكم أنه يملك رقاب الناس، كما قال النمرود: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) (البقرة: 258)، أو كما قال الفرعون:(سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) (الأعراف: 127)، ويجلدون ظهور الناس، كما قال عمر رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!". السياسة أن يُحترم حق الناس في التفكير والإبداع والتصحيح والنقد والتقويم، والخساسة فلسفة فرعونية قوامها: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29)، فليس من حق أحد أن يفكر أو يبتكر، السياسة صداقة وشراكة بين الحكام والمحكومين، والخساسة استعلاء وظلم للمحكومين، كما قال تعالى: (كيف وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً)  (التوبة: 8)، أو كما قال تعالى: (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) (الكهف: 20)، السياسة تجعل كل مسئول كالأب الرحيم يحمل المغارم ويتعفف عن المغانم، مثل ذي القرنين الذي عُرض عليه أن يأخذ أجرا لإقامة سد فتعفف قائلا: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) (الكهف:95)، ومثل سليمان عليه السلام الذي قال: (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (النمل:36)، أما الخساسة فتجعل المسئول كالشيطان الرجيم:(يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف: 79) حتى لو كانت لمساكين يعملون في البحر كما جاء في قصة سيدنا موسى والخضر، أو كما جاء في قول الفرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (الزخرف: 51)، أو كما قال عمرو بن أم كلثوم:

لنا الدنيا وما أمسى عليها                 ونبطش حين نبطش قادرين

وأنَّا الشاربون الماء صفوا                 ويشرب غيرنا كدرا وطينا

إذا بلغ الفطام لنا صبي                   تخرُّ له الجبابر ساجدين

السياسة تجعل من العلماء والقضاة والأدباء والمفكرين والمبتكرين ذوي مكانة ورعاية وصلاحية وحماية، والخساسة تجعل من الانقلابيين والبلطجية والجهلة والسفلة والمبتدعين والفاسقين واللصوص وتجار المخدرات والجنس والسلاح ذوي حصانة وحماية وسُلطة. السياسة هي تزكية ونماء وعزة وإباء وسِلمٌ للأولياء وحرب على الأعداء، والخساسة هي خسة ونذالة وظلم للضعفاء وخزي أمام الأعداء، السياسة هي أفضل استخدام للموارد البشرية والطبيعية لسعادة الإنسان وتنمية العمران، والخساسة هي أسوأ توظيف للموارد البشرية والطبيعية بإذلال الإنسان وتخريب العمران، السياسة أن يقود الإنسان غيره بالحب والإحسان، والخساسة أن يقود الإنسان غيره بالحديد والقضبان، السياسة تغذي حرية الصحافة بالأفكار الفريدة والاختراعات الجديدة والحلول السديدة لمشكلاتنا العتيدة، والخساسة هي حرية مفضوحة، وشهوات منفلتة، وصور عارية، وكذب ونفاق زائف، وتجريح لا تصحيح، وفضائح لا نصائح، وصفحات للأدب أكثرها "قلة أدب"، وتعلو أسماء يسمونهم "الكتَّاب" وفي عالم الخساسة ضاقت المسافة بين اللفظين "كتب" و"كذب"، أما الشاشات فصارت تمتلىء بالذين يلوون ألسنتهم بالكلمات فيحسبه الناس علمًا وفكرًا وفنًا وهي ألوان من المهازل، يصدق فيها قول الشاعر:

هذا زمانك يا مهازل فامرحي        قد عُدَّ كلب الصيد في الفرسان

السياسة تعتمد نشر الحقائق مهما كانت مرة، والخساسة تعتمد الإثارة مهما كانت شاذة! السياسة يُكرَّم فيها الفاضل ويُجرَّم فيها الظالم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له"، والخساسة يُكرَّم فيها المجرم ويهان فيها العادل، ويتهم فيها البريء و"يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، وهي تشبه خساسة بني إسرائيل عندما قتلوا ابن عمهم ليرثوا عمه الغني، ثم اتهموا الجيران وطالبوهم بالدية، كما قال تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة: 72)، قال ابن خلدون: "يجب أن يحسن الحاكم إلى قومه ديانة أو سياسة طلبًا لرضا الله والجنة واستقرار وامتداد الملك في الدنيا"، أما ما يؤرق مضجعي، ويسيل مدمعي، ويضيق صدري وأضلعي أن أرى في كثير من ديار أمتي أفعالا لا تنتمي إلى الديانة أو السياسة وإنما ترمى في مستنقع الخساسة.و

ألا فليذكر كل من يعمل في السياسة حاكما أو محكوما، رجلا أو امرأة، وزيرا أو "غفيرا" قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (البقرة: 281).