"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (سورة الإسراء: 70). تكريم الإنسان وإعطاؤه المكانة التي تليق به وتفضيله على كثير من المخلوقات ظاهرة متميّزة في الآيات البينات، وقد اكتسب الإنسان هذه المكانة لكونه تحمّل المسؤولية، وخصه الله بصورة مميّزة في خلقته، وفي قدراته العقلية والنفسية، التي مكنته من استيعاب حقيقة الرسالات السماوية، ومن أداء واجبه الديني والعملي والإصلاحي بوعي تامّ. وكان الخطاب في الآيات البينات للناس جميعا بدون تمييز بين جنسهم ولونهم ولغتهم ووضعهم الاجتماعي، فكلهم مطالبون بالالتزام بما جاء فيها، يعبدون الله وحده ويقرّون بما أنعم عليهم من نعم ظاهرة وخفية، وبما رزقهم من الطيبات، ولا يعيثون في الأرض فسادًا، ولا يحرّمون ما أحلّ الله ولا يحلّون ما حرَّم، ولا يرتكبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله إلا بالحق. وهذه الإشارات لها دلالة قوية في كون الإنسان مخلوقا مكرّما ومفضّلا، فقد صوَّره الله في أحسن صورة وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه فسيح جنّاته قبل أن ينزل إلى هذه الأرض، وجعل له عقلا، وسخَّر له كل ما في الأرض من طيبات وأرسل له الرسل، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (سورة الأعراف: 10).

والسجود لآدم هنا ليس عبادة له، وإنما هو تكريم وتبجيل لمخلوق له خصائص فكرية وبيولوجية ونفسية لا توجد في مخلوقات أخرى، وحينما امتنع إبليس عن السجود فلأنه لم يدرك الخصائص التي ركّبها الله في الإنسان معتبرا نفسه أفضل ممن خلق من طين. ويظهر تكريم الإنسان في أسمى تجلياته وكماله في أن الله جلّ جلاله جعل المخلوقات مسخّرة لخدمته ولتوفير حاجياته وتخفيف المشاق عنه، فالنجوم والأقمار والشمس والسحب والأرض والجبال والبحار والأنهار والنباتات والحيوانات الأليفة وغير الأليفة وجدت لتوفر للإنسان التوازن المطلوب لاستمرار حياته على هذه الأرض بشكل طبيعي، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} (سورة إبراهيم:34-34) وهذه بعض مظاهر تكريم الإنسان كما أوضحتها الآيات البينات.

أولا: في الهيئة التي خلق الله عليها الإنسان

إن أفضال الله ونعمه التي لا تعد ولا تحصى على الإنسان تبدأ من تسويته وخلقته على الصورة التي هو عليها في أتم كمالها وبهائها، إنها صورة تليق بآدميته وبالتكريم الذي حظي به من خالقه، صورة في أبهى وأجمل هيئة وأحسن خلق، لقد خلقه الله من طين وتدرج في التكوين من نطفة فعلقة ثم مضغة، لتتحول المضغة إلى عظام ثم تكسى لحما، هكذا تستوي صورة الإنسان في أتم خلق بجميع أعضائه وحواسه وعقله، وبهذا الاكتمال يكون قادرا على أداء ما يطلب من عبادات وأعمال صالحة، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (سورة المؤمنون: 12-14). إنها القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، إذا أراد الله شيئا فإنما يقول له كن فيكون، وكل ما في هذا الوجود أحسن خلقه وأبدعه بالصورة التي أرادها لمخلوقاته {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (سورة السجدة: 6).

إن الإنسان حينما ينظر في تركيب أعضائه الظاهرة والباطنة يشعر بهذه النعمة العظيمة والتكريم الذي خصه به خالقه، فلولا تلك النعمة لما استطاع القيام بالأعمال التي يمارسها بسهولة في حياته، فهو يسخّر الأشياء الكبيرة والصغيرة لخدمته ويتفنن في تطوير الصناعة والزراعة وشق الطرق، وتخطيط المدن وجلب كل ما يحتاجه، ألا يشعر هذا المخلوق بأن هذا تكريم من خالقه وتفضيل له على مخلوقات كثيرة لا تستطيع فعل ذلك، إن ما وهبه الله من تناسب تام في الأعضاء والحواس وفي القدرات العقلية والنفسية هو الذي مكّنه من فعل كل ذلك بسهولة {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (سورة المؤمنين: 79).

إن الإنسان مأمور بالعبادة مثل سائر المخلوقات، لكنه يمتاز عليها بتحمّل مسؤولية كبيرة هي إصلاح الأرض وإعمارها والحفاظ على البيئة بكل ما فيها من مخلوقات {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (سورة المائدة: 34).

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي دعيت إليه أمّة الإسلام في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة آل عمران: 104)، هو دعوة إلى الإصلاح الشامل والحفاظ على البيئة في جميع مظاهرها، ونشر العدل والأمن والسلام، واجتناب الفساد بجميع أشكاله وأنواعه {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (سورة المائدة: 66)، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف: 84).

إن الإنسان موجود في هذه الحياة الدنيا لعبادة الله وللعمل في كل المجالات التي تسعده وتسعد مجتمعه، أعمال يرضى عنها الله ورسوله، فهو مخلوق ذو طموح يسعى دوما لبلوغ أعلى المراتب اجتماعيا وفكريا، وأسمى الفضائل ومكارم الأخلاق التي تحقق الاستقرار لمجتمعه، وهذه الطموحات لا تسعى إليها مخلوقات أخرى، وفي هذا يكمن سر تكريمه وتفضيله.

لقد وهبه الله عقلا يفكر به، ونطقا يتواصل به، وأعضاء يبني بها ويشيد، فتمكن من صنع حضارة تميزت بالابتكار والتجديد والبناء والإعمار، ولم يصل إلى كل هذا إلا بفضل ما وهبه الله من قدرات وطاقات وما سخّر له في هذه الحياة الدنيا {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (سورة الجاثية: 2-4)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (سورة لقمان: 19)، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (سورة الأنعام: 98).

إن الله العليم بخلقه الحكيم في تدبير الأمور لم يخلق الكائنات الحية في البر والبحر والسماء عبثا، وإنما لغايات نبيلة كلها خير وفضائل، ولعلّ من هذه الغايات إسعاد الإنسان وتوفير حاجياته وإحداث توازن وجمال في الكون {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (سورة البقرة: 116)، لقد أراد الله لهذا الكون أن يكون بديعا ومتناسقا ومحكما للدلالة على إحكام صنعه وبديع خلقه وقدرته المطلقة، وليتدبر الإنسان هذا الصنع العجيب الذي لا يقدر على إيجاده مخلوق مهما أوتي من قوة: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} (سورة الفرقان: 61).

إن الله وهب للإنسان العقل والإحساس والشعور ليدرك الغاية من وجوده، وليتأمل ما في هذا الكون من أسرار وبدائع هي آية في الجمال والاكتمال، فلا ينبغي أن يعطل فكره ووجدانه وشعوره وحواسه فيتساوى مع مخلوقات أدنى منه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (سورة الأعراف: 179)، إن كل ما في هذا الكون يهدي إلى الإيمان بالله القوي القادر، والإيمان يهدي إلى الحق واليقين والرضا الذي يجعل الإنسان يسير في طريق آمن من الزلل والعثرات وبذلك يستحق التكريم والتفضيل.

ثانيا: نعمة العقل

وهذه نعمة جليلة من الله عزّ وجلّ على الإنسان، فبالعقل والإحساس الواعي، والشعور اليقظ تطورت المجتمعات البشرية عن باقي الكائنات الحية في المعاملات والسلوك، وأسلوب الحياة ونمط التفكير، وما نرى من تطور هائل في العلوم والصناعات والمواصلات والتقنيات الحديثة هو نتيجة من نتائج التفكير العقلي، والعمل الجادّ الذي بذله الإنسان منذ أن أوجده الله في هذه الأرض، فلم يترك شيئا في السماء ولا في الأرض ولا في البحار إلا واستغله استغلالا عقليا من أجل رفاهيته، وسلامته وتحسين عيشه، كما أن الإنسان بفضل هذه النعمة الإلهية تحمَّل المسؤولية في كل ما يصدر منه من أعمال وأقوال وسلوك، لأن له القدرة على التمييز بين الخير والشر، والنافع والضار، فاختياره يكون عن وعي وإدراك لما يقدم عليه، ومن هنا جاءت مسؤوليته عن إعمار الأرض والحفاظ على البيئة والكائنات الحية، وهذا التكليف هو تشريف وتكريم للإنسان، ولذلك خاطبته الرسالات السماوية وأمرته بعبادة الله وحده، ونهج السبيل الذي يقرّبه من طاعة الله في كل ما يصدر منه من أعمال وأقوال وسلوك، فكيف أبرزت الآيات البينات أثر نعمة العقل على حياة الإنسان؟ إن الآيات البينات أوضحت بشكل جلي نعمة العقل في مواضع لا يمكن عدها أو حصرها في كتاب الله، سواء باللّفظ الصريح أو بالعبارات الدالّة على ذلك، وهذه الكثرة لها دلالة قوية في كون هذه النعمة من أجلّ النعم التي توجب الشكر: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، وتاريخ الإنسان على هذه الأرض شاهد على ما حقق من منجزات بفضل العقل، فمنذ أن خلقه الله لم يقف لحظة عن تطوير حياته نحو الأفضل في عيشه وفي علاقاته الاجتماعية، وظروفه الاقتصادية، ومنجزاته العلمية، فقد عمَّر الأرض وأصلحها، وبنى وشيَّد وطوَّر الصناعة والفلاحة وتربية المواشي، وقرَّب المسافات بينه وبين الآخرين مهما بعدت الشقّة بتطوير المواصلات بمختلف أنواعها، وما اخترع من تقنيات حديثة لم تبق معها حدود وفواصل؛ كل هذا كان يقوم به وهو يفكِّر في كل ما يسهل له معيشته ويجنبه الأوبئة والأمراض والكوارث الطبيعية، وما كان للإنسان أن يحقق كل هذه الإنجازات الهائلة لولا عقله الذي أنار له السبيل ومكَّنه من حفظ حضارته وإرثه الثقافي والفكري، ولذلك فإن كتاب الله يجعل العقل والحكمة من أجلّ وأفضل النعم على الإنسان، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (سورة البقرة: 268)، وقوله عزّ وجلّ: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (سورة ص:20)، فبالحكمة يعلو شأن الإنسان وتصبح له القدرة على الاختيار السليم، والتنظيم المحكم والعيش في ظروف تسعده وتسعد الآخرين.

والآيات البينات التي أشارت إلى نعمة العقل ذكَّرت الإنسان بأهمية هذه الهبة الربّانية، وطلبت منه أن يحافظ على عقله ويستخدمه في كل ما هو بين يديه وما يشاهده بعبارات تدل على أن أصحاب العقول ملزمون بالتفكير المتأني الذي يقود إلى النتيجة السليمة، ولذلك فإن أفضل الطرق للدعوة إلى الله ينبغي أن تكون بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة، وفصل الخطاب الذي يجعل ذوي الألباب يتفكرون بحكمة فيما يشاهدونه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل: 124)، بل إن الله تعالى جعل من يعطّل عقله بإرادته أو باستعمال ما يفسده من مسكرات ومخدرات في مرتبة الدوابّ الصمّاء البكماء الذين هم شر الدوابّ عند الله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون} (سورة الأنفال: 2)، ولا يوجد سبب يجعل الإنسان يعطّل عقله، فقد أعطاه الله كل ما يعينه على استخدامه وبخاصة الحواس التي تعينه على تبليغ المعلومات للعقل بالمشاهدة واللّمس والشمّ والإحساس: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (سورة الأعراف: 179)، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (سورة البلد: 8-10)، كل هذا تذكير للإنسان بوجوب استعمال كل ما وهبه الله من أعضاء وحواس من أجل إسعاد نفسه في الحياة الدنيا ونجاته من عذاب الله يوم لقائه.

وكتاب الله فصلت آياته البينات للعقلاء والعلماء وأصحاب الألباب، الذين يتدبّرون الأمور بحكمة ولا يصدرون حكما على شيء مَا إلا بعد العلم والتفقه فيه، فلذلك جاء بلسان القوم المخاطبين حتى لا يتعلّلوا بعدم فهمه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (سورة فصلت:2)، إنهم كانوا يعلمون ما في هذه الآيات من معان ودلالات، وقد جاءتهم مفصَّلة ومبيّنة لأحكام الدين ولما ينبغي أن يتّبعوه في علاقاتهم الاجتماعية، فتدبّرها بحكمة وروية واجب لمعرفة عظمة الخالق والغاية من خلق هذا الكون المتناسق في كل مظاهره، وما يجب فعله في العلاقات الاجتماعية، وليتأمل كل إنسان قوله تعالى:

{وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (سورة الذاريات: 21)،

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (سورة الحجر: 75)،

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (سورة يونس: 5)،

وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (سورة يس: 35)،

وقوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (سورة يس: 32-34)،

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (سورة الجاثية: 2-4).

هذه الآيات البينات تذكير للإنسان بأن أفضل ما يسعى إليه في هذه الحياة الدنيا هو طلب العلم الذي يقرّبه من خالقه وينير عقله، فيسلك المسالك التي تسعده في الدارين، قال الله تعالى: {وَقُل رَّبِّي زِدْنِي عِلْمًا} (سورة طه: 111). لأن العلم الذي يدرك به المخلوق عظمة خالقه يجعله أكثر تقربًا لله وأشد خشية منه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (سورة فاطر: 28)، والعلماء هم الذين أوتوا الحكمة التي تقودهم إلى طاعة الله ورسوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة البقرة: 268)، وهم الذين يبيّنون أحكام الشريعة للناس لأنهم الأقدر على فهمها واستنباط الأحكام منها: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سورة سبأ: 6).

إن دلالات هذه الآيات البينات تبيّن أن الله وهب الإنسان العقل وجعله مصدر المعرفة، وكان مجيء الرسالات السماوية من أجل الزيادة في تنوير العقول، ومعرفة الأمور الغيبية على حقيقتها دون تخبّط أو تأويل غير سليم، ولذلك كان الخطاب في كل الرسالات السماوية لأصحاب العقول وذوي الألباب، فهم الذين يدركون عظمة الله وقدرته وسر خلق هذا الكون.

وإذا كان الله قد زوَّد الإنسان بالعقل والحواس، وأرسل له الرسل مبشرين ومنذرين فلكي تقوم الحجّة عليه ولا يجد سببا يجعله يتهرّب من المسؤولية فيدعي أنه لم يكن على علم بخالقه ولم يرسل إليه الرسل ليبيّنوا له الحقائق، ولم يعنه بالآلة التي تسهِّل عليه فهم أحكام الشريعة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (سورة الزمر: 38)، وقوله عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة غافر: 16)، والعلماء مطالبون بتوضيح الحقائق وعدم كتمانها وعقابهم يكون أشدّ وأفظع إذا لم يبلّغوا الحقائق كما بيَّنها الله في كتابه وبلَّغها رسوله الأمين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة آل عمران: 76).

هذه هي مكانة العقل في الإسلام، فالعقلاء هم الذين يستوعبون حقيقة الرسالات السماوية ويقدّرون عظمة الخالق، ويدركون الغاية من إيجاد المخلوقات، ويسيرون في الطريق الذي ينجيهم من غضب الله. وبهذه الآيات البينات نرد على كل من يدّعي أن الإسلام دين لا يخاطب العقل وهذا ما جعل المسلمين يتأخرون ويتقدم غيرهم، فلذلك نادوا بفصل الدين عن كل مرافق الحياة كما فعل الغرب الذي حقق نهضته العلمية والفكرية التي نشهدها الآن بهذا النهج.

إن هذا الكلام مجرد هراء وتغطية على الحقائق، ودعوى لا أساس لها من حقيقة هذا الدين، إن لإسلام لم يغلق الباب أمام الناس لاستعمال عقلهم في كل شيء يطور حياتهم نحو الأفضل شريطة الالتزام بشرع الله، وبالعدالة والمساواة بين جميع الناس، وهذه مبادئ وفضائل إنسانية لا ينكرها عاقل، فشرع الله جاء لتنظيم حياة الناس ودعوتهم للعمل وإصلاح دينهم ودنياهم بطرق لا ظلم فيها للمستضعفين، وإذا كان الغرب قد ثار على الدين فلأن لهم الأسباب الموضوعية التي دعتهم إلى ذلك، فالكل يعلم تسلّط رهبان الكنيسة في العصور الوسطى على عقول الناس ونهب أموالهم، وسوقهم كما تساق البهائم والأنعام للحروب من أجل تحقيق أطماع الكنيسة، فإذا انتفضوا على دينهم وعلى رهبانهم فلأن لهم ما يبرِّر ذلك، أما الإسلام فلا توجد فيه وصاية أحد على آخر، فالمسلم مطالب باتباع ما جاء في الكتاب والسنة وفي أثر السلف الصالح الذين التزموا بشرع الله وبما دعاهم إليه عقلهم النير الذي هداهم لإصلاح البلاد والعباد، فنالوا رضا الله ورضا الناس وأصبحت سيرتهم نهجا يتّبع لكل من أراد أن يسلك مسالك الخير، وبهذا لا يستطيع جاحد أن ينكر دور العقل في الإسلام على مستوى العبادة والعمل والتفكير وأسلوب الحياة، إن هذه الرسالة التي ختم الله بها سائر الرسالات جاءت بقوانين وتشريعات تقوم على أساس العدل والمساواة والتكافل الاجتماعي والتضامن والحرية والكرامة، فدعتهم لاستعمال عقولهم لتحقيق ذلك واختيار الأصلح منها، فلا يستطيع أحد مهما بلغ نضج فكره أن ينكر الفضائل التي دعا إليها الإسلام، أو يشك في أثرها على سعادة الناس وأمنهم واستقرارهم.

ثالثا: نعمة الاجتماع والتآلف

وهذه من النعم التي كرَّم الله بها الإنسان إذ جعله مخلوقا يميل إلى الاجتماع والتآلف، وفي ذلك مصلحة كبيرة لتأمين عيشه وتوفير استقراره الاجتماعي والنفسي، وخصلة التآلف والاجتماع أوجدها الله في كل الحيوانات لحماية نفسها من أعدائها، ولتأمين الطعام لنفسها ولصغارها لكن شتّان بين صفة التآلف عند الحيوانات وعند الإنسان، فالإنسان لا يكتفي بتوفير الأمن والعيش فقط وإنما يسعى إلى أبعد من ذلك من أجل إيجاد أفضل السبل للعيش الكريم والأمن الدائم وتطوير المجتمع نحو الأفضل حيث يسترشد بشريعة الله، وبما يضع من أنظمة وقوانين تنظم حياة الأفراد والجماعات في علاقاتهم ومعاملاتهم التي تتعدد صنوفها وأشكالها في التجارة والصناعة والسكن والتعليم والمنازعات، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي هي جزء من حياة الناس، والناظر في الشرائع والقوانين التي تتعامل بها المجتمعات البشرية سماوية كانت أو وضعية يلاحظ أن تلك القوانين لم تهمل صغيرة أو كبيرة في العلاقات الاجتماعية، وفي السلوك والأخلاق، والاقتصاد والتجارة والعدل، وهذه العلاقات تتشابك وتتفرّع حتى إننا نجد فقهاء الشريعة والقانون الوضعي لا يقفون لحظة عن الاجتهاد في خلق القوانين ووضع التشريعات ومناقشة النوازل التي تظهر بحكم تطور المجتمعات، وهذا يدل على أن البشرية لها نمط مضبوط ومقنّن في علاقاتها الاجتماعية والنفسية والخلقية، إن خرجت عليها اختلّ توازنها، بخلاف الحيوانات التي تعيش دوما في صراع تكون فيه الغلبة للقوي، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات: 13)، يحمل هذه الدلالات القويّة في نظام الاجتماع والتآلف والروابط التي ينبغي تحقيقها في المجتمعات البشرية، فالتعارف هو لقاء وودّ ومحبة، وبحث عن المصالح من أجل العيش في سلام وأمن واستقرار، ولذلك كان الخطاب في الآية الكريمة للناس جميعا، لا فرق بينهم في العرق واللّون والجنس، إن التعاون لفعل الخير والبر والإحسان واجب إنساني إذا كان يسعد البشرية جمعاء، وحتى الذين نختلف معهم في العقيدة يجب أن نستفيد من علومهم وخبراتهم وتجاربهم إذا كان ذلك في صالح الأمّة.

ونلاحظ هذا النهج الذي دعت إليه الآية الكريمة في المعاملات من أجل المصلحة الإنسانية هو الذي يسود في عصرنا الحاضر بين جميع الأمم في البحث العلمي والمناهج التربوية، وفي التجارة والصناعة والفلاحة والمواصلات والتقنيات الحديثة، وهذا هو النهج السليم، فالمجتمعات الإسلامية في المرحلة الراهنة من واجبها أن تبحث في كل ما يمكن أن يسعدها ويطور حياتها نحو الأفضل بالعلم وباكتساب الخبرات والتجارب التي سبقتها بها الأمم المتقدمة. ولو تأمّل كل فرد ما في نعمة الاجتماع والتعارف على تأمين حياته وتوفير أمنه واستقراره لقدَّر هذه النعمة حق قدرها وشكر الله عليها مثل سائر نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، ولينظر الإنسان إلى أثر هذه النعمة في ميدان واحد فقط وهو تربية النشء ورعايتهم وتوجيههم إلى ما يسعدهم ويصلح أحوالهم في المستقبل، إن تربيتهم وتكوينهم وتعليمهم يحتاج إلى جهود من أطراف عديدة تبدأ من الأسرة ثم المدرسة والمعاهد والجامعات والمجتمع المدني، المتمثّل في الجمعيات الثقافية والحقوقية والرياضية، وكل هذه الميادين تتوفّر على مربين وخبراء وتقنيين وفنيين اكتسبوا تجارب وخبرات في التربية والتكوين والسلوك النفسي، والنشء لكي يحصل على توجيه سليم يحتاج إلى جهود وخبرات كل هؤلاء في مراحل نظمتها المجتمعات، ولا يتم ذلك على الوجه الصحيح إلا بالتآلف والاجتماع والتعاون.

رابعا: نعمة إرسال الرسل والأنبياء

وهذه نعمة من نعم الله على الإنسان ومظهر من مظاهر تكريمه وتفضيله، لقد أرسل الله له الرسل على فترة من الزمن مبشرين ومنذرين وحملوا لهم شريعة الله وقوانينه التي ينبغي أن يلتزموا بها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهذه رحمة من الله بعباده، فالإنسان برغم ملكته العقلية لا يستطيع أن يتوصّل بمفرده لمعرفة الغيبيات والحقائق التي فوق قدراته العقلية، ولا يمكنه أن يضع شرائع وقوانين مضبوطة تنظم العلاقات والسلوك والمعاملات التي تحفظ حقوق الأفراد والجماعات بلا مظلم، فالقوانين الوضعية هي اجتهادات بشرية قد يصيب فيها واضعها أو يخطئ، أو قد تضعها جهة تريد المصلحة لنفسها أو عشيرتها، أما قوانين الرسالات السماوية فهي رحمة للناس كافّة، تعصمهم جميعا من الخطأ وتبيّن لهم الأحكام الصائبة وتساوي بينهم، فلا يفضل أحدهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما أن الرسالات السماوية حجة على الإنسان أمام الله، فلا يستطيع إنكار ما جاء به الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء: 164)، والقرآن الكريم الذي جاء به خير ولد آدم عليه الصلاة والسلام جاء بلسان عربي مبين، وهي لغة القوم الذين خاطبهم الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (سورة طه: 110)، وهو عليه الصلاة والسلام من صميم القوم وأشرفهم، يعرفون نسبه وأخلاقه وسيرته، وقد ذكر الله فضل الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام على قومه، فقال عزّ وجلّ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سورة آل عمران: 164). لقد أرسله الله بالهدى ودين الحق لقومه وللناس جميعا في كل زمان ومكان حتى لا يكون للناس حجة على الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (سورة النساء: 169)، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة سبأ: 28).

والمسلمون مطالبون بتبليغ هذا الدين في كل زمان ومكان بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا إكراه في الدين بعدما تبيّن الرشد من الغيّ، لأن كل ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام من ربّه وما دعا إليه في أقواله وأفعاله وتقريراته هو صدق ينبغي أن يلتزم به المسلم ويبلّغه بأمانة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (سورة الأحزاب: 21). فلينظر الإنسان وليتأمل بعقله لكي يقدّر كل نعم الله عليه، فلم يتركه للأهواء والظنون ولا لعقله المحدود، فالله الخبير العليم بكل الأمور يعلم أن الإنسان خلق ضعيفا في قدراته الجسمية والعقلية والنفسية، فاقتضت رحمته الواسعة الأخذ بيده ليسلك طريق الخير التي يبيّنها له الرسل والأنبياء، فكان الوعد والوعيد وبيان ما حاق بالأمم الظالمة التي سبقت عبرة لكل من يتذكر وينيب إلى الله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} (سورة الأنعام: 7). هذا جزء بسيط من رحمة الله الواسعة بعباده وفضله وكرمه عليهم، وتفضيله على كثير من المخلوقات، فلينظر الإنسان إلى هذه الرحمة وهذا التفضيل بتأمل ويشكر الله على ما أعطاه وسخّر له.