لا أستغرب حصول بريطانيا على المركز الأول في التعليم على مستوى العالم لهذا العام 2019 حسب تقارير دولية؛ و قد رأيت بنفسي مثل كثيرين تقديسهم لحق الطفل في التعليم حتى لو لم تكن لديه أوراق إقامة قانونية فشهادة ميلاده فقط كفيلة بدخوله المرحلة الدراسية المناسبة لعمره وهم يتكفلون بتعليمه اللغة و متابعة الدروس معه بشكل خاص حتى يكون بمستوى أقرانه. والمدرسة معنية بتوفير كل احتياجاته من كتب وأوراق وقرطاسية دون أن يتكلف ولي الأمر بشراء شيء له، ولا واجبات يعود بها إلى بيته في المرحلة الابتدائية سوى في نهاية الأسبوع ، بل لا توجد كتب أو مقررات دراسية بالمعنى الحرفي إنما هي أوراق عمل و مذكرات تدريبية فقط؛ وعليه لا يضطر الطفل لحمل حقيبة ينوء بحملها رافعو الأثقال. يتدرب الطفل منذ بداياته التعليمية في سن الخامسة على مهارات العرض والإلقاء وعليه نهاية كل أسبوع الوقوف أمام زملائه حاملا شيئا يحبه ويحدثهم عنه - وهكذا تنمى ثقته بنفسه وتصقل خبراته المعرفية والشخصية والمهارية.

ولو كان المعلم خريج أرقى جامعات العالم فلا يمكنه الانتظام في سلك التدريس إلا بعد أن يجتاز دبلوما أكاديميًا متخصصا في طرق وأساليب تعليم الطلبة لا تقل مدته عن عام دراسي كامل. فقط طفلة واحدة لي تمكنت من الالتحاق بالمدرسة مع وصولنا إلى لندن وبقي أخوها وأختها ينتظران شهورا على قوائم الانتظار ، ما خفف عني الضيق لأجلهما أن رئيس الوزراء البريطاني المنتخب في حينه كاميرون كان قد انتقل للتو من بيرمنغهام شمالا إلى العاصمة لندن حيث مقر رئاسة الحكومة واضطر هُو الآخر للانتظار نحو شهرين حتى وجد مقعدين لطفليه في المدرسة الحكومية القريبة.

وكان مبدأ تكافؤ الفرص فارضا نفسه ليس في قبول الطالب من عدمه في المدرسة ولكن في كل مساقات وأطراف العملية التعليمية، وهنا تستطيع السياسة التعليمية الواضحة المعايير فرض نفسها على بيئة التعلم بعدالة وشفافية. وعندما اصبح أطفالي في المرحلة الثانوية ساعدت ولدي على كيفية إلقاء خطبة الجمعة فالمدرسة توفر لهم مصلى وتحثهم على تفعيل حضورهم بِه! بينما يتم تكريم الطلبة كل عام تكريما لا ينحصر بالمتفوقين أكاديميًا وهم مكرمون بلا شك بل يكرم معهم الطلبة الذين حققوا تقدما ملموسا عن المستوى الذي كانوا عليه من قبل.

وفِي مدرسة ابني اضطر المدير لتركهم وعليه كان لزاما البحث عن مدير / مديرة، وسيخضع المرشح لعدد من المقابلات قبل تعيينه ؛ واحدة منها كانت مقابلته مع مجلس الطلبة المنتخب و توصيتهم حوله مهمة قبل إقرار تعيينه من عدمه ! لا شك ساورنا قلق كثير ولا زال في ظل حديث عن توسيع تعليم المواد المرتبطة بالجنس في المدارس ، وهذا واحد من تحديات التعليم في مثل هذه الدول، ويحتاج الأمر متابعة واهتماما من قبل الأهل بشكل كبير .

عموما المدرسة تقدر عاليا أولياء الأمور الذين يهتمون لأطفالهم وتشركهم في أنشطتها وتحترم أراءهم بشكل كبير . حصلت ابنتي ذات مرة على شهادة تقدير تحت مسمى " استخدام مهارات التفكير في تعلم التاريخ" فمادة التاريخ التي تعلمنا في بلادنا أنها مجرد مادة نظرية للحفظ فقط يكرم الطالب بها في بريطانيا إن استخدم عقله في محاكمة المواقف التاريخية التي يدرسها.

كانت أبواب رياض الأطفال مفتوحة لزوجتي حين عرضت على المعلمة رغبتها بتعريف الأطفال بشهر رمضان المبارك و قضت مع الأطفال يوما مدرسيا كاملا لأجل ذلك. تعمل المدارس بشكل مستقل وكل مدير مدرسة لديه صلاحيات قبول أو رفض تعيين المعلمات والمعلمين العاملين معه، وهناك مؤسسة رقابية مستقلة " أوفستد " تراقب جودة التعليم في المدارس بشكل منهجي و ضمن تقارير دورية تكون بمتناول الجميع. اتحدث عن ذلك متحسرا على واقع التعليم في بلادنا العربية و تدني مستواه حتى أصبحت دولة بحجم مصر ذات التاريخ والمكانة في ذيل الترتيب العالمي لجودة التعليم بشهادة مسؤولي التعليم فيها!

ما أخلص إليه في مقالتي أن صانع القرار في بلادنا العربية بإمكانه لو أراد حقًا تحسين مستويات التعليم في بلادنا بشكل كبير و بإجراءات بسيطة وليست معقدة أو تحتاج ميزانيات ضخمة لتنفيذها .إن وجدنا الشخص المناسب بمكانه المناسب و أعدنا ترتيب أولويات الإنفاق في موازنة الدولة بصورة تجعل التعليم أولا وقبل كل شيء. إن أردنا نهضة حقيقية علينا الاهتمام بتحسين مدخلات ومخرجات التعليم وبعدها سيصبح الحديث عن تخلف تعليمنا ضربًا من أحاديث الماضي لا أكثر .