من أهم العوامل المؤثرة في النمو الإنسان في مختلف جوانبه هما: العامل الوراثة و العامل البيئة . حیث من الواضح تأثیرهما علی النمو الجسمي و غیره من الجوانب الأخری للشخصية الإنسانية، مثلاً نلمس تأثیر الوراثة في الصفات الجسمية کالطول و القصر و الشعر و ملامحة الوجه و شکل الجسم ولون العين، فلیس من الصعب منهم أخذ وراثة بعین الاعتبار .أما من صعب تحدید أوزان النسبية لصفات موروثة غیر الجسمية مثل ذکاء و نحو ذلک من الصفات النفسية و الخلقية و العقلية.کما لا یخفی أن للبیئة أثر کبیراً علی نمو الأنسان منذ اللحظة الأولی من تلقیح بویضة الأنثی بالحیوان المنوي للذکر، وکذلک منذ حمله وولادته و بداء حیاته إلی آخرها.
أما من الصعب أیضاً تحدید أثر عامل البیئة بمختلف عناصره و جوانبه الاجتماعية و الاقتصادية و الجغرافية والثقافية في نمو الأنسان.کما نعلم أن نمو الإنساني لا يتم الإ في ضوء التفاعل بین عاملي الوراثة والبيئة. ولذلک لکل منهما حظ في نمو الإنسان ،علی دورة حیاته کلها من بداية تخلقه إلی وفاته.و إذن لبیان أثر تفاعل الوراثة و البیئة في تکوین و فاعلية الأنسان یمکن القول بأن: الوراثة ×
البیة =الکائن .
العوامل المؤثرة في النمو الإنسان من منظور الإسلام:
و قد أشارة الإسلام إلی أثر کل من الوراثة و البیئة في النمو الفرد، في مختلف جوانبه، وفيما يلي توضيح لدور كل من عاملي الوراثة والبيئة في نمو شخصیت الإنسان على حدة:
الوراثة:
يقصد بالوراثة « جمیع العوامل الموجودة في الکائن الحي من اللحظة التي تتم فیها عملية تلقیح الخلية الأنثية بالخلية الذکرية » .فنقل الصفات الموروثة من الآباء إلى الأبناء لا تتم إلا عن طريق الکروموزومات و الجنيات و قد بین القرآن الکریم دور العوامل الوراثة في التطور الإنساني کما قال تعالى :« إِنّا خَلَقْنَا اْلإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ...» . قال سید قطب في تفسیر هذه الآية :« إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ » .
والأمشاج : الأخلاط ، وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الموراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علمياً « الجينات » وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً ولصفات الجنين العائلية أخيراً . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى .فتبرز لنا هذه الآية أن خصائص و ممیزات و صفات الشخصية الإنسانية للآباء و الأمهات نحو أبنائهم، التي یأخذها الفرد عن والدیه طریق الجنیات.وینبهنا القرآن الکریم أن الصفات الخیرة تنقل بالوراثة عن ابن عباس قوله:« إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » ، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد .وعن قتادة قوله:« ذرية بعضها من بعض»، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له .
و أکد الرسول صلی علیه و سلم أیضاً صفات الخیرة تورث بالوراثة ، لقوله صلی علیه و سلم:« إن الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم» . علی ذلک تنقلت صفات الخیرة في و لد إسماعیل حتی وصلت إلی النبي صلی علیه و سلم. و نجد في الحدیث النبوي أیضاً أشارة إلی الولید البشري لأن لا يتأثر وراثیاً بوالدیه فقط ، بل یتأثر بأجداده و أسلافه مهما بعدوا، في الصحيحين عن أبي هُرَيرة:« أن رَجُلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: «هل لك من إبل؟». قال: نعم. قال: « فما ألوانها؟» قال: حُمر. قال: « فهل فيها من أورَق؟» قال: نعم. قال: « فأنى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نزعة عِرْق. قال: « وهذا عسى أن يكون نزعة عرق» ، .
فإن العروق حسب المفهوم النبوي الشریف هي التي تعطي الصفات للجنین ، وبالتالي فهي وعاء الموروثات.و إذا أردنا بالتالي اقتلاع البعض منها، فسنأخذها من العروق و لیس من مکان آخر، و هکذا فإن معنی الحدیث الشریف یکون:عسی أن یکون عرقاً اقتلع و أخذ بالقوة المورثة المسببة للسواد من عرق أخر .
ويشير هذا الاحدیث النبوي إلى أثر الوراثة في لون الإنسان کما تشیر أیضاً إلی أن بعض الخصائص الجسمية تنتقل بالوراثة من الآباء أو الأجداد و الأسلاف إلی أجیال الموالید، و إن کانت وراثته عن الوالدین أکثر منهم. و قال في رواية أخرى، قال علیه الصلاة و السلام:« إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها و بين آدم» . فأشارة الرسول صلی الله علیه و سلم إلی حقیقة توارث الصفات من الأجداد و الأسلاف و حتی آدم علیه السلام إلی الأبناء و الأجیال.
وقد حث الإسلام على أن يكون الطفل أبواه خاليين من العيوب الوراثية وأن يكونا من ذوي الأخلاق الحميدة، لأن الطفل يرث من الأبوين الخصائص الجسمية والخلقية والنفسية والروحية والأخلاقية، ذلك تحریصاً علی سلامة شخصية الإنسان بمختلف جوانبه ،کما یؤکد أیضاً أن حالة الأم النفسية تؤثر في نمو الطفل ، و کذلک في مستقبل حیاته کلها، وقال الرسول صلی الله علیه و سلم:
و الرسول صلی الله علیه و سلم عبر عن الوراثة بالمعادن، فعن أبي هريرة قال :« سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أكرم الناس قال اتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال فيوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» .
و قال:«الناس معادن والعرق دساس وأدب السوء كعرق السوء» .
و قال:«الناس معادن في الخير والشر» .
وقد حرم الإسلام الزواج من الأقارب وما أخذ حكمها بالرضاع حرصاً علی نجابة الولد ،لأن يقوم الرضاع مقام النسب في التحريم في النكاح إلا في بعض الحالات، قال تعالى: « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اْلأَخِ وَ بَناتُ اْلأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ » .
و علی ذلک قال الرسولصلی علیه و سلم:« یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب » .
معنى« حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم » تحريم نكاحهن . فالإسلام یحرم زواج بعض الأقارب ببعض لعدة عوامل منها التقارب الفیزیولوجي بین الأقارب التي أقره علم الحدیث ،لأن الأقارب تتشارک في الموروثات التي تنحدر من آبائهم، و بذلک فبعضهم أقرب لبعض من غیرهم من وجهة النظر الوراثیة .
و في مجال الرضاعة ، فإن الأم المرضع تحمل في لبنها صفات فیزیولوجية خاصة بها،و علی وجهة عام فإن لبن الرضاعة یُعتبر فیزیولوجیاً انعکاساً لترکیب جسم المرأة المرضعة و ذلک لأن عناصر الغذائية المختلفة في لبن الثدي تکون مزیجاً من الدهن و البروتین اللاکتوز و الأملاح المعدنية و الفیتامینیات و قد تم ترکیبها وفقاً لترکیبات الوراثية الموجود سرها في خلایا غدد اللبن و التي نشأت مع الجنس البشري .
البيئة:
و المقصود بالبیئة « جميع العوامل الخارجية التي تؤثر في الشخص من بدأ نموه » ،أي منذ اللحظة التي تلقح فیها بويضة الأنثی بالحیوان المنوي للذکر ،ثم في جمیع مراحل نموه في طیلة حیاته علی ظروفه المادية والاجتماعية و السیاسیة و الجغرافية والثقافية والحضارية. و إشارة الإسلام أيضاً إلی تأثیر العوامل البيئة في النمو الإنسان بالمعنى الشامل، منذ لحظة الإخصاب و ما بعد، حیث أكدَّ علی أهمية البيئة الداخلية لرحم الأم ودورها في تنمو الجنين، فقد روی مسلم ، و ابن ماجة و البیهقي عن عائشة رضی الله تعالی عنه، قال صلی الله علیه و سلم«الشقيُّ منْ شقيَ في بطنِ أمهِ والسعيدُ من وعظَ بغيرهِ » ، و أشارة هذا الحديث إلی أن يتأثر الجنين في بطن أمه عن حالتها الجسمية و الإنفعالية و النفسية ، فتنبى في ضوئها سعادته أو شقاؤه.
كما أشار إلى البيئة الخارجية بما فيها البيئة النفسية والاجتماعية والطبيعية، فأشار إلى أهمية غذاء الأم في النمو العقلي للجنين، قال رسول الله صلی الله علیه و سلم« أطعموا حبالاكم اللبان، فإن يكن في بطنها ذكر يكون زكي القلب وإن يكن أنثى حسن خلقها وتعظم عجيزتها» .
كما نجد في الحدیث النبوي إشارة إلی أهمية البیئة الأسریة في تنشئة الطفل و سلوکه و تفکیره ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ » .
فالطفل حین یولد علی الفطرة التوحید و الإیمان بالله تعالی، و نشأ في أسرة سیئة و البیئة فاسدة، وتربی علی أسوأ الأخلاق، و عاش مع جماعة فاسدة،وتلقن مبادیء الکفر و الضلال، فسرعان مایتحول من الإسلام علی الکفر و الضلال و ینشأ علی الضلال و الإلحاد.
ولهذا حرص الإسلام على تکوین الأسرة الصالحة لتوفير البيئة الاجتماعية الصالحة حتی تنشيء الطفل تنشئة الصالحة و یتربی فیها تربیة حسنة، وتغرس في نفوسه العادات الحسنة ، و الأخلاق الحميدة ،و القیمة الإسلامية.
و نجد أبلغ تعبير وأدق تصوير عن أثر البيئة في تربية الطفل في قول تعالى: « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ » .
وقد شبَّه الله سبحانه الطفل بالنبتة عندما قال بشأن مريم: « وَ أَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا... » .
و قال سید طنطاوي:« وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً » أي رباها تربية حسنة ، وصانها من كل سوء ، فكان حالها كحال النبات الذى ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتى ثماره الطيبة . و كانت تلک الثمرة الطيبة هي عيسى عليه السلام. و لهذا قال رسول الله صلی الله علیه و سلم« إن لكل شجرة ثمرة و ثمرة القلب الولد » . فالطفل کانبتة، فإن أردنا أن ننبت نباتاً حسنة لابد من اختيار بذرة صالحة و هذا عن طریق الوراثة ،کما لابد أیضاً معرفة و اختيار أرض صالحة للزراعة فيها، والعناية بها لتكون ثمرة طبية و الصالحة ، فهذه تمثل البیئة .
کما یؤکد القرآن الکریم أثر البيئة في السلوك على لسان قوم مريم عندما عاتبوها على الفعل الذي يخالف، في رأيهم، ما تربَّت عليه في بيت طاهر معروف بالفضائل، قال تعالى : « يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» . أي: أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاحوالعبادة والزهادة ، فكيف صدر هذا منك؟ .
کما یؤکد أثر الأسرة في السلوك حیث تعتبر هي من أخطر العوامل و أبعدها أثراً،إیجاباً و سلباً في تنشئة أبنائنا و أجیالنا. ففي هذه الآية أشار الله سبحانه إلى هذه الحقيقة، إذ إن انتقال صفات الأخلاقیة « أي الميول والاستعدادات الأخلاقية » من الآباء إلى الأبناء ، لا یقتصر علی الوراثة فحسب، بل یتعداها إلی الاکتساب الصفات و الخصائص عن طريق التقلید و المحاكاة.
کذلک یؤکد القرآن الکریم أثر البيئة في السلوك و ذلک عن طريق التقلید و المحاكاة و السنن و العادات ، لقوله تعالی:« وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ» .
« وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ » .
کما بیّن القرآن الکریم أثر البيئة الفاسدة في السلوك الإنسان و طغیانه و ضلالته، قوله تعالی : « إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ »... والمعنى : إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب . و کذلک أولاد يعقوب عندما قرروا طرح أخاهم يوسف عليه السلام في غيابة الجب .و کذا حال بالنسبة لذرية ابراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالی:«وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ » .
أما من ناحية الأخری بیّن القرآن الکریم أن السلوک،لا یکون فقط محصلة عوامل وراثية ، بل أن العقیدة والإرادة و العقل الراجح لها دور في تکوین شخصية الإنسان و سلوکه ،فقد نشأ أبراهيم عليه السلام وأصحاب الكهف وامرأة فرعون، و موسی علیه السلام في بيئة الكفر والفساد والطغیان، مع ذلك اختاروا طريق الحق و الهداية ، و سلکوا سلوک الايمان وفقاً لإرادتهم الذاتية ، و لهذا إن لم یکونوا قادیراً بالصلاح أنفسهم و أبتعادهم عن البیئة السیئة وفق عقیدتهم و إرادتهم الذاتية ،لمّا یکون قادرین أن یکِّونوا مجتمعاً نظیفاً من الکفر و الإحاد . وهذا يدل على أن السلوک،لا یکون فقط محصلة عوامل وراثية ، وبيئية التي یربی فیها الفرد و یلقی فیها کثیراً من أنماط السلوک و التصرفات و المواقف و القیم و الاتجاهات، بل إنما یدل علی أن أثر العقیدة والإرادة الذاتية و العقل الراجح في تکوین شخصية الإنسان و سلوکه ، وإلا لما یعاتب الإنسان على افعاله و اعماله. ،لذلک إما أن ینساق الفرد وراء فتنة أو إغراء و نوازع النفس الأمارة، و ووساوس الشیطان وفقاً لمزاجه و أهوائه، والهوی یعمي و یُصم،فقال تعالی:
« وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » .
« وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » .
و إما أن یختار الإنسان طریق الحق و الإيمان و الهداية ، فیکتسب من البیئة کثیراً من القیم و المبادیء و المثل و الفضائل الأخلاقية،و ینشأ علی التربیة الإیمانية، فلا یخضع شخصیته وسلوکه لعامل البيئة بشکل مطلق و لا ینساق وراء أهوائه و أشواقه الهابطة.
فالاسلام تعتبرأن العامل الوراثة و البیئة من العوامل المؤثرة في تکوین الشخصية الإنسان وسلوکه ، ومع ذلک لا يترک عنصر الحسم للوراثة أو البيئة فقط ، بل إنما یؤکد علی أهمية عامل الإرادة و العقیدة و العقل الراجحفي الشخصية الإنسان وسلوکه لذلک یمکن القول: « أن العقیدة أو الفلسفة التي یؤمن بها الفرد في الحیاة تعتبر العامل الأقوی، بعد سن البلوغ، فسلوک الإنسان هو صورة أو تعتبر عن المفاهیم أو الأفکار التي یتبناها في الحیاة، بغض النظر عن صحتها أو خطاها و التي تعد عادة ما یکون مستمدة من العقیدة أو الفلسفة التي ینتمي إلیها أو یؤمن بها. کانت تلک هي أهم العوامل المؤثرة في شخصية الإنسان» .
مراحل النمو العام للإنسان من منظور الإسلام:
لقد بیّن القرآن الكريم مراحل النمو الإنسان منذ بداية الحمل حتى لحظة وفات و ذلك في الآیات التالية:
قوله تعالى :«... فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اْلأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَ تَرَى اْلأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ» .« يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اْلأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا... » .
« اللّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَ شَيْبَةً ...» .
و يقول تعالى: «... ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ...» .
علی ذلک فی ضوء القرآن الکریم يمر الإنسان خلال عمره بعد الميلاد بثلاث مراحل عامة، توصف المرحلة الأولى بأنها مرحلة ضعف، ثم تأتي مرحلة أخرى توصف بأنها مرحلة قوة، واخيراً تأتي بعد مرحلة القوة مرحلة الضعف الثانية، مصداقاً لقوله تعالى :
وقد اعتمد الباحث في تقسیم تلک المراحل على مراحل فرعية علی تقسيم مستنبط من القرآن الکریم والسنة النبویة، وبما یقره علماء علم النفس النمو وذلک علی النحو التالي:
(1) - مرحلة ما قبل الولادة:
لقد أشار القرآن الكريم إلى أطوار النمو الجنين منذ بداية الحمل حتى وقت الميلاد و ذلك في مواضع متعددة منها:
« يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ » .
تشیر الآية الکریمة إلی أن الجنین یمّر في بطن أمه علی عدة اطوار و مراحل متتالية بوصف الظلمات.
قال ابن کثیر في قوله تعالى: « يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ » . أي: خلقكم طوراً من بعد طور .
و جاء في تفسیره ،أیضاً لقوله تعالی: « يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ »أي: قدركم في بطون أمهاتكم « خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ » أي: يكون أحدكم أولاً نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، « فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » .
وقوله تعالی: « فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ » يعني: ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة -التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد - وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغيرهم .
و جاء في تفسير المنتخب لقوله تعالي:« يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ » أي :يخلقكم فى بطون أمهاتكم طوراً من بعد طور فى ظلمات ثلاث : هى ظلمة البطن والرحم والمشيمة .
و قال سید قطب في تفسیره عند قوله تعالی: « يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ »أي: من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام . إلى الخلق الواضح فيه عنصر البشرية .
« فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ». . ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين .
وقد اختلفت الآراء في تحديد الظلمات الثلاث في هذه الآية الكريمة فمن ذلك أنها:
1- البطن، والرحم، والمشيمة (ويقصد بها ما يغلف الجنين بصفة عامة) أو أنها هي: 2- الرحم، والسلى، والرهل. أو أنها هي: 3- البطن، والظهر، والرحم. أو أنها هي: 4- المبيض، وقناة فالوب، والرحم. وأضافوا قولهم:
«والظاهر أن الرأي الأخير هو الأرجح لأنها ثلاث متفرقات في أماكن مختلفة. أما الآراء الأخرى فإنها تشير في الواقع إلى ظلمة واحدة في مكان واحد تحيط به طبقات متعددة. ولعل الخالق العظيم قد أشار في كتابه إلى هذه الحقيقة العلمية في زمن لم يكن الناس قد اكتشفوا فيه بويضة الثدييات ومسلكها ذاك في أجسام الإناث بعيداً عن العيون» .
و في قوله تعالى:« مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا » .قيل: معناه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ويحيى بن رافع، والسدي، وابن زيد .
و قوله تعالى :«... فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اْلأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً... » .
« يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اْلأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى... » .
« وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ » .
« الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ اْلإِنْسانِ مِنْ طينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهينٍ * ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فيهِ مِنْ رُوحِهِ... » .
« يا أَيُّهَا اْلإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَريمِ * الَّذي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ » .
« هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُمْ فِي اْلأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ...» .
تأسیساًعلی ذلک یحدد لنا القرأن الكريم معالم أطوار الجنين الإنساني في مرحلة الحمل في عدة مراحل وهي:
1- نطفة
2- علقة
3- مضغة مخلقة وغير مخلقة
4- عظام
5- لحم يكسو العظام
6- التسوية والتصوير (خلق آخر) والتعديل
7- نفخ الروح .
وسيتم باختصار عرض خصائص كل مرحلة من هذه المراحل على حدة وذلک علی النحو التالي:
1- مرحلة النطفة:
ويبدأ طور النطفة من لحظة اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة، وينتهي بالانغراس .
« أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى» .
والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الاية، فإنها نص لا يحتمل التأويل .
قوله تعالى: « أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى» أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت (مني) لاراقة الدماء .
النطفة في اللغة: الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل .
النُّطْفة : القليل من الماء.. والنطفة التي يكون منها الولد .. والجمع النِّطاف.. والنَّطْفُ: القَطْر ونطَف الماءُ ونطَف الحُبُّ والكوز وغيرهما يَنْطِفُ ويَنْطُف نَطْفاً ونُطوفاً ونِطافاً ونَطَفاناً :قَطَر .
« مني » المَنى بالياءِ القَدَر.. ويقال مَنى اللهُ لك ما يسُرُّك أَي قَدَّر الله لك ما يَسُرُّك .. والمَنى والمَنِيَّةُ الموت لأَنه قُدِّر علينا وقد مَنى الله له الموت يَمْني ومُنِي له أَي قُدِّر ..و حتى تبَيّنَ ما يَمْني لك الماني أَي ما يُقَدِّر لك القادر ..والمَنِيُّ مشَدّد ماء الرجل والمَذْي والوَدْي مخففان .
قوله تعالى ألم يك نطفة من منى يمنى أي يقدر بالعدة الالهية ما تكون منه وقرئ تمنى على النطفة وسمى المنى لانه يقدر منه الحيوان .
النطفة في اللغة هي القلیل من الماء الذي یعدل القطرة إلی بضع قطرات وتحمل الحیوانات المنوية التي تدخل الرحم وتنتقل إلی قنات فالوب حتی تلقح بویظة المرأة وتحتفظ بهذا الوصف فترة من الوقت، قبل أن تنجح في التعلق، ثم تأخذ اسم العلقة، کما تدل علی بویضة المرأة عندما اکتمل نضجها و انطلقت من أحد مبیضي المرأة و یلتقفها أحد بوقي فالوب وتأخذ طریقها من قنات فالوب إلی الرحم فإذا وصلت إلی الرحم و قدّر لها أن تلتقي بالحیوان المنوي، تبداء عملیة الإخصاب و تکون النطفة الأمشاج التي تنغرس في جدار الرحم لیبداء الجنین في مراحل نموه المتتابعة حتی لحظة المیلاد. لقوله تعالی:« ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ» و هو الرحم أي تثبت بشدة في رحم الأم.
كما قال: « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ » يعني: جمعناه في الرّحِم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء.
وعلی ذلک النطفة هو الخلية التناسلية سواء کانت من الرجل أو من المرأة و ماء مهین هو ماء التناسل ، و القرار المکین هو رحم الأم ، و القدر المعلوم هو مدة الحمل من لحظة تخلق الجنین إلی ولادته. ووصف الرحم بالقرار المكين بعد ذكر النطفة يشير إلى معنى دقيق أيضا، فلولا أن الرحم قرار مكين، ما تمكنت النطفة من التعلق به، وما أخذت بالتالي اسم العلقة. فالرحم كان قراراً مكيناً قبل أن تحل به النطفة، فلما حلت به تمكنت من التعلق واكتساب الوصف الجديد.
والرحم قرار مكين فعلاً، ويستكمل مقومات هذا الوصف بالاستعدادات التي تتم فيه قبيل وصول البويضة، حيث تضاف إلى ما زود به أصلاً في تركيبه. وكلمة «قَرَارٍ» تشير إلى ما يوفر للعلقة الاستقرار و كلمة «مَّكِينٍ» تشير إلى ما يوفر لها الحماية. فأهم ما يوفر الاستقرار للعلقة جدارُ الرحم الداخلي، وأهم ما يوفر لها الحماية موقع الرحم العام داخل جسم المرأة . و تمر النطفة بثلاثة أطوار فرعية هي: الماء الدافق، والسلالة والنطفة الأمشاج وفيما يلي توضيح لكل مرحلة منها على حدة.
أ- طور الماء الدافق:
ففي طور الماء الدافق، يتدفق ماء الرجل وماء المرأة، مصداقاً لقوله تعالى : « فَلْيَنْظُرِ اْلإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ» .
« ماء دافق » أي مدفوق .
« مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى » أي تدفق في الرحم .
وقوله:« خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ » يعني: المني؛ يخرج دَفقًا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله تعالى .
فالأية تشیر إلی أن الماء الذي یُخلق منه الجنین یدفق بسرعة مع ضغط لأن بالتدفق ینتقل الحيوان المنوي من المهبل في داخل الرحم حتی یلتقي بالبويضة في قناة فالوب. و ماء المرأة یحمل البويضة تماماً کما یحمل ماء الرجل الحیوان المنوي ،و هو یدفق کما یتدفق ماء الرجل حتی یستطیع أن ینتقل البويضة عبر قناة فالوب إلی الرحم نحو مكان الإخصاب.
فإن الضغط الذي يصاحب انتقال البويضة والسرعة التي تحتاجها حتى تستطيع الانتقال من المبيض إلى بوق فالوب لهو الدليل على أن ماء المرأة هو ماء دافق كما هو ماء الرجل وفقاً لصياغة الآية الكريمة السابقة الذكر التي جاءت على الإطلاق لتشمل الماءين: ماء الرجل، وماء المرأة .
والترائب:موضع القلادة من الصَّدْر وقيل هو ما بين التَّرْقُوة إِلى الثَّنْدُوةِ وقيل التَّرائبُ عِظامُ الصدر وقيل ما وَلِيَ الّتَرْقُوَتَيْن منه وقيل ما بين الثديين والترقوتين.. وقيل التَّرائبُ أَربعُ أَضلاعٍ من يَمْنةِ الصدر وأَربعٌ من يَسْرَتِه ..و قيل التَّرائبُ ما تقدَّم وقال الفرَّاء يعني صُلْبَ الرجلِ وتَرائبَ المرأَةِ وقيل التَّرائبُ اليَدانِ والرِّجْلانِ والعَيْنانِ وقال واحدتها تَرِيبةٌ وقال أَهل اللغة أَجمعون التَّرائبُ موضع القِلادةِ من الصَّدْرِ وأَنشدوا .
والصُّلَّبُ عَظْمٌ من لَدُنِ الكاهِل إِلى العَجْب .
وظاهره كالآية أن أحد الطرفين البينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه وعليه قيل هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل ثم إن ما تقدم مبني إما على أن الترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد وإما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضاً أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر وقيل ما بين الثديين وقيل ما بين المنكبين والصدر وقيل التراقي وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى مكي عن ابن عباس أنها أطراف المرء رجلاه ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه.
فالماء الذي یتحدث عنه الآية الکریمة یخرج من مکان ما واقع بین الصلب و الترائب و ذلک من المرأة و الرجل،لأن لفظ « ماء » یخص کلیهما، و هو لغظ عام غیر مقیّد بأحد الجنسین، و لیس کما أشارة إلیه بعض المفسّرین أنه من صلب الرجل و من ترائب المرأة.فنلاحظ أن الله سبحانه و تعالی قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ» و لم یقل ..یخرج من الصلب و الترائب، لماذا؟: ذلک لأن الماء یخرج من موضع ما قریب من التقاء الصلب و الترائب و لیس من الموضعین نفسیهما، هذا الاستنتاج لیس خطأء أو غریباً عن القرآن الکریم لأن هذا الأسلوب وصف في موضع آخر من القرآن الکریم تخلّق اللبن عند الحدیث عن مصدره في قوله تعالی:« مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ » ، .
ب- طور السلالة:
أما الطور الفرعي الثاني فهو السلالة، كما في قوله تعالى:
« ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهينٍ» .
السَّلُّ انتزاعُ الشيء وإِخراجُه في رِفْق سَلَّه يَسُلُّه سَلاًّ واسْتَلَّه فانْسَلَّ وسَلَلْتُه أَسُلُّه سَلاًّ والسَّلُّ سَلُّك الشعرَ من العجين ونحوه والانْسِلالُ المُضِيُّ والخروج من مَضِيق أَو زِحامٍ.. قال ابن بري :سَالَ السَّلِيلُ بهم أَي ساروا سيراً سريعاً.. وسَلَّة الفَرَس دَفْعتُه من بين الخيل مُحْضِراً وقيل سَلَّته دَفْعته في سِباقه وفرس شديد السَّلَّة وهي دَفْعته في سِباقه ويقال خَرَجَتْ سَلَّةُ هذا الفرس على سائر الخيل .
والسُّلاَلَةُ بالضَّمِّ : ما انْسَلّ مِنَ الشَّيْءَ والنُّطْفَةُ سُلاَلَةُ الإِنْسانِ.. وأيضاً : سَمَكَةٌ طَوِيلَةٌ .
جاء في لسان العرب :مهین: قال أَبو إِسحق هو فَعيل من المَهانةِ وهي القِلَّة ..وقوله عز وجل خُلِقَ من ماءٍ مَهينٍ أَي من ماء قليل ضعيف .
وقوله تعالى: « مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » ، أي: من الصفو الذي يسل من الأرض، وقيل: السلالة كناية عن النطفة تصور دونه صفو ما يحصل منه .
قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان فيه قولان أحدهما أنه آدم عليه السلام وإنما قيل من سلالة لأنه استل من كل الأرض هذا مذهب سلمان الفارسي وابن عباس في رواية وقتادة والثاني أنه ابن آدم والسلالة النطفة استلت من الطين والطين آدم عليه السلام قاله ابو صالح عن ابن عباس قال الزجاج والسلالة فعالة وهي القليل مما ينسل وكل مبني على فعالة يراد به القليل من ذلك الفضالة والنخالة والقلامة قوله تعالى ثم جعلناه يعني ابن آدم نطفة في قرار وهو الرحم مكين أي حريز قد هيىء لاستقراره فيه .
« ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ » أي: يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة .
« أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ » ، قوله تعالى من ماء مهين أي ضعيف فجعلناه في قرار مكين يعني الرحم إلى قدر معلوم وهو مدة الحمل.
و علی ذلک قال المفسرون السلالة هي: الماء المهين و هو ماء التناسل. و من معاني المهین:القلیل و الضعيف و الحقیر و المبتذل و وصف السلالة لقلته. فالسلالة هنا کل ماء الرجل و ماء المرأة التي تكون منها الولد و هي انتزاع الشيء وإخراجه برفق .و أما في هذا الطور بعد ما تدفق ماء الرجل في مهبل المرأء « التي تکون فیها مائتي ملیون إلی ثلاثمائة ملیون حيوان المنوي و بالفعل» تبدأء حرکة الحیوانات المنوية بشکل سمكة طويلة رحلتها في الرحم إلی البویضة. و من بين هؤلاء « التي تنطلق في دفقة المني الواحدة من الرجل » لا يصل في النهاية إلى البويضة إلا ما يقرب من خمسمائة حيوان منوي فقط حیث من بين هؤلاء واحدً منها یفلح في عملية إخصاب البویضة ویستطیع أن یحفر لنفسه ممراً لتدخل البویضة و تختلط بها وبهذا التلقيح تتكون النطفة الأمشاج. و بمجرد إخصاب البیضة يحدث التغيرات السريعةً في الغشاء حتی يحول دون دخول بقية الحيوانات المنوية مهما حاولوا. وقد أشار الرسول صلی الله علیه و سلمإلى ذلك: « ما منْ كلِّ الماءِ يكونُ الولدُ » . أي أن الإخصاب لا يحدث من كل الحيوانات المنوية للرجل سوی الحیوان الواحد.
ج- طور النطفة الأمشاج:
النطفة الامشاج هي بداية عملية الإخصاب عند ما يلقح الحيوان المنوي البويضة في الثلث الأخیر من الرحم.. « إِنّا خَلَقْنَا اْلإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَميعًا بَصيرًا » .
« أمشاج »: أخلاط.. ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلوط وخليط. وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة .
وقال أهل المعاني: الامشاج ما جمع وهو في معنى الواحد، لانه نعت للنطفة، كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق .
« أَمْشَاجٍ » جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج يقال مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة .
قال ابن کثیر في تفسیر هذه الآية :« يقول تعالى مخبراً عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا مذكوراً لحقارته وضعفه»
ثم بين ذلك فقال: « إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ » أي: أخلاط. والمشج والمشيج: الشيء المختلط ، بعضه في بعض. قال ابن عباس في قوله: « مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ » يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس: الأمشاج: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة .
« من نطفة أمشاج » أخلاط أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين .
فالمقصود بالنطفة الأمشاج في القرآن الکریم هي البويضة الملحقة . کما قلنا آنفاً، فإن في القذفة الواحدة من المني التي تکون فیها ما بين مائتين الى ثلاثمائة مليون حيوان منوي فإن حيواناً منوياً واحداً فقط یندفع نحو البویضة و یرتطم بجدارها ویشق لنفسه طریقاً داخل هذا الجدار و یقوم بتلقيح البويضة وتختلط به.
و إذا ما لقحت البويضة وصارت بويضة ملقحة ابتدأت انقسامات متعددة وتعرف هذه المرحلة بمرحلة الانقسام والانشقاق وتتحول البويضة الملقحة « النطفة الامشاج » وتستغرق هذه المرحلة أسبوعا كاملاً حتى تعلق هذه النطفة الامشاج التي تحولت إلى كرة جرثومية لها خلايا آكلة وقاضمة تعلق بجدار الرحم وتتحول حينئذ إلى المرحلة التي تليها وهي العلقة . وبذا يتقرر خلق إنسان جديد، وبعد ساعات من تخلقه تبدأ عملية التقدير « البرمجة الجنية » الواردة في قوله تعالى :« مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» .والتقدير "هنا" يعني التروي في تسوية الخلق. وبالتقدير تتحدد صفات المخلوق الجديد وتميزه عن غيره من البشر، كما يتضمن التقدير تحديد الجنس الذي يتم في طور النطفة، مصداقاً لقوله تعالى : « وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ اْلأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى » .
أي: تقدر بالعزة الإلهية ما لم يكن منه، ومنه: المنية، وهو الأجل المقدر للحيوان، وجمعه: منايا، والتمني: تقدير شيء في النفس وتصويره فيها .
2- مرحلة العلقة:
العلق: عَلِقَ بالشيءِ عَلَقاً وعَلِقَهُ: نَشِب فيه.. وقيل هو الدم الجامد الغليظ وقيل الجامد قبل أَن ييبس وقيل هو ما اشتدت حمرته.. والعَلَقَةُ دودة في الماء تمصُّ الدم .
العلق: التشبث بالشيء، يقال: علق الصيد في الحبالة، وأعلق الصائد: إذا علق الصيد في حبالته، والمعلق والمعلاق: ما يعلق به، ..ومنه: العلقة لما يتمسك به، .. والعلق: دود يتعلق بالحلق، والعلق: الدم الجامد ومنه: العلقة التي يكون منها الولد .
«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً...» .
جاء في تفسیر الطبري :« وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا » ، أي: طورا النطفة، ثم طورا أمشاجا حين يمشج النطفة الدم، ثم يغلب الدم على النطفة، فتكون علقة.. .
و ذکر الآلوسي في تفسیره عند قوله تعالی:« ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً » أي دماً جامداً وذلك بإفاضة اعراض الدم عليها فتصيرها دماً بحسب الوصف .
و ذکرابن کثیر في تفسیره عند قوله تعالی:« ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً »، أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد .
«هُوَ الّ
الآراء