تقف البشرية بتواضع وذهول شديدين أمام هذه المدرسة العالمية الأربعينية العملاقة في ميادين مصر وخاصة في ميداني رابعة العدوية والنهضة.
مدرسة عظيمة لمن وافقها وأحبّها وقدّرها أو من خالفها أو ناكفها أو حاربها.
مدرسة حقاً ودروسها ومساقاتها كبيرة ومتعددة، وهي بحر يمكن أن تغرف منها ما شئت، ولكنّها ستبقى عظيمة.
1- درس الانحياز للشرعية الشعبية الحقّة المعبّر عنها بوسائل يمكن قياسها وبخاصة أنّها حازت على شهادات عالمية وإقليمية ومحلية من الأصدقاء والخصوم والمنافقين والأعداء على حدٍ سواء.
وقد عمّقت هذه المدرسة هذا المفهوم «الديمقراطية» عند الجيل الإسلامي المعاصر والذي كان مرفوضاً في السّابق باعتباره ناقصاً ولا يعبّر عن إرادة شعبية حقيقية كاملة، وأنّ الكمال في مدرسة الشورى.
2- درس الحفاظ على السلميّة والإصرار عليها مهما كانت الضّريبة التي تدفعها هذه المدرسة من أبنائها وأساتذتها، وأثبتت خلال ما يقرب من خمسين يوماً أنّها الأحرص على دماء المصريين، حتى وإن تساقط أبناؤها وبناتها برصاص الغدر المتعمّد الغادر، وهذه مساقات تستحق التوثيق والدراسة والتمحيص والتقدير وأخذ العبر.
3- درس الثبات والصمود على المبادئ السامية مهما اختلّت المعطيات وضاقت السبل وتعاظمت الأخطار واقتربت على الذات والولد والممتلكات، حيث واصلوا العمل الليل بالنهار رغم قيظ الصيف الحارّ في القاهرة. حتى وإن قال لهم الناس: «إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم ايماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل».
4- درس المشاركة بكل ما تملك «شارك بكل ما تملك» المال, الأهل, الولد، الراحة، النفس، وبخاصة من القيادات الإسلامية حيث لم يبق في بيوت القادة «قاعد» منتظر يُخشى عليه ويُحافظ على حياته، فخيرت الشاطر في الاعتقال وأمّا أهله وذووه وأصهاره ففي الميادين، وقد استشهدت ابنته حفصة رحمها الله وزوجها، تقبّلهم الله تعالى في عداد الشهداء، وكذا محمّد البلتاجي الذي واصل المسير من أسطول مرمرة 31/5/2010، وحتى 2011 في معركة الجمل ومروراً بهذه الفترة إلى أن استشهدت وحيدته أسماء بالأمس، رحمها الله وتقبّلها وإخوانها وأخواتها في الصالحين والصالحات، وغيرهم كثير.
5- درس القابضين على الجمر، وهذا المساق مطوّر من القبض على الجمر الذي لصاحبه أجر خمسين من الصحابة الكرام كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درس المنشرحة صدورهم للرصاص والنار الحارقة دون خوف أو تردد أو وجل، وهذا ما شهدناه خلال الأربعين يوماً الماضية، وما تلاها.
6- درس الاستيعاب للآخرين وإفساح المجال لهم وتمتين مواقفهم والثناء على جهودهم مهما كانت قليلة وعدم نسبة الفعل والحشد والصمود والتضحية للإخوان إنّما للمصريين جميعاً، وقد ظهر هذا الخطاب جليّاً قولاً وفعلاً.
7- مساق «احتمال بكرة أكون شهيد» «وافتكروني»، وهكذا هذا درس عظيم جداً لمن تأمّله هم يعلمون أنّ الثمن لمن يدفعه غيرهم أن دنت آجالهم ومع ذلك يستبشرون بنعمة من الله وفضل، يبتسمون وهم على يقين من الشهادة، ولعلّ معظم من رفعوا اللافتات من الشباب والشابات على صدورهم في عمر الورود قبل أيّام من استشهادهم.
وقد حققوا عملياً قول الشهيد السعيد عبد العزيز الرنتيسي: «إنّ الشهادة لا تسبق الأجل».
8- درس تجريم الانتقام وتحريم الإساءة للجيش، بل الاعتزاز به والمحافظة عليه حتى لو تعرّض للإغواء والتشويه ولم يسجل على واحد من المعتصمين الرساليين أنّه مدّ يده بالإساءة لأحد، مرددين: «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله رب العالمين».
9- درس المرأة المصرية العظيمة التي أعادت سيرة السلف الصالح، فهذه تفقد وحيدها ثم تعلن دون تلعثم مرابطتها وبناتها الخمس في الميدان مع المعتصمين دون أن يسمع لها بكاء أو تحسر أو ندم، وعشرات القصص البطولية.
10- درس انبثاث الشرفاء والشريفات من المصريين في مختلف الاتجاهات والتيارات من مسلمين وأقباط وغيرهم، وفنّانين ورياضيين وقضاة، وعلماء وكتّاب، ورجال سياسة.
11- درس كشف الزيف بالصبر والاحتمال فقد بطل السحر أنّ المعتصمين غير سلميين أو أنّهم يملكون أسلحة، بل أسلحة ثقيلة، ومنجنيقات، وقد باغتت بجرّافاتها قوات الانقلاب النّاس فهل وجدت شيئاً؟
12- ومن أعظم الدروس التي كنّا نقرؤها بالرواية فقط درس تقديم القيادات الإخوانية الأقارب للموت ولمواقع الخطر وعدم الضنّ بهم، وإبقائهم في البيوت حفاظا عليهم وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد قدّم في بدر لمبارزة كبار فرسان قريش حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، وهم من أقرب الناس إليه رضي الله عنهم أجمعين، وقدّم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، قادة جيش مؤتة في أخطر مواجهة مع الروم، وقدّم حمزة بن عبد المطلب شهيداً في أحد، وعبيدة بن الحارث شهيداً في بدر، وجعفر شهيداً في مؤتة.
13- درس التماسك للمصيبة وعدم الجزع والإصرار على الاستمرار والصبر غير المتناهي.
14- درس الالتجاء إلى الله عند الشدائد، فكم تعلّمنا من دعائهم عند السحر وقبيل الإفطار ومن قنوتهم وصلواتهم حيث يشعرونك بأنّهم الأقرب إلى الله سبحانه وكأنّهم يرونه حقاً، وإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم.
15- درس تمايز الصفوف وانكشاف المستور، وسقوط ورقة التوت الخادعة عن عورات كثير من الأدعياء الممثلين شرعياً أو سياسياً أو إعلامياً أو فكرياً، فقد كانت أربعينية مصرية فاضحة أو هي الفاضحة.
16- درس «ليس لكم ثمن» كما قال كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق للأخ خالد مشعل: «المشكلة أنّه ليس لكم ثمن!» أيّ لا يمكن شراء مواقفكم بأيّ ثمن مهما ارتفع، فالمهر غالٍ لا يقدر عليه إلاّ خالقكم وهو الجنّة.
17- درس العفة والطهارة ونبل الأخلاق والإيثار والنظام، فكيف تعيش هذه الجموع كل هذه المدة دون حادثة واحدة تخدش الحياء، وكيف يأكلون ويفطرون على مائدة واحدة رغم الحصار والتهديد والخوف، إنّها مدرسة عظيمة فعلاً.
18- درس الوفاء للشعب المصري فلم تقبل مدرستكم المساومة على حقه وعلى ثورته في 25 يناير وعلى دماء شهدائه وحقوق مظلومية ودفعتم الثمن راغبين طائعين.
إنّها مدرسة عظمى لم أطلع على مفردات مناهجها الأخرى، ولكن هذا بعض ما عثرت عليه بعد حرقها وتدميرها. وإن كانت لا تحصر بمكان ولا بزمان، «ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً».
الآراء