«.. أما مصر، فكانت من أشقى بلاد الله وأُنهكت قوى الأمة العقلية وقواها العلمية، وألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية ولا بالحرية الدينية ولا بالحرية العقلية، واجتمع على مصر الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي، ممّا كدّر عليها صفو حياتها..».

يبدو هذا الوصف كأنه صورة حيّة لما تعانيه مصر الآن ولكنه ليس كذلك، إنّه وصف مصر زمن الحكم الروماني الذي كان يعتبرها بقرة حلوباً فقط للمال والثروة، وما أنقذها منه سوى الفتح الإسلامي الذي ردّ إليها سيادتها وكرامتها وحفظ لها مواردها.

هذا الوصف التاريخي لحال مصر قبل وبعد الفتح الإسلامي أورده أبو الحسن الندوي في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» المنشور عام 1944، ولكن سنّة التاريخ في الاستدارة والمداولة والانتقال ما بين استخلاف واستبدال ونهضة وعمران إلى نكوص وانهيار، تجعل ما كان بالأمس يتكرر اليوم لتكرار نفس الظروف، وفي الكتاب يبيّن الندوي ما عاناه العالم والشعوب من فراغ ديني وأخلاقي وظلم قبل مجيء الإسلام، الذي ردّ لأوروبا بالذات شيئاً من العقل والسماحة في العصور الوسطى، عندما انتشر كدين للعلم والتطور واحترام الآخر. وقد أقرّ بذلك كثيرون من المستشرقين المنصفين أنّه لولا الإسلام لظلّت أوروبا حبيسة الظلام والتحجر والحروب الأهلية. ويظهر هذا التقدير للحضارة الإسلامية في كتابات المفكر الفرنسي مارسيل بوازار الذي كتب صراحة: «أنّ محمداً على الصعيد التاريخي لم يكن مبشراً بدين وحسب، بل كان كذلك مؤسس سياسة غيّرت مجرى التاريخ، فالقرآن يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة». ومن المستشرقين الذين اعترفوا بأنّ الإسلام ليس دين رهبنة وانقطاع في بيوت العبادة جاك ريسلر، إذ قال: «إنّ دين الإسلام يمكن أن يؤخذ على ثلاثة معان: الأول دين والثاني دولة والثالث ثقافة».

وفي الوقت الذي أقرّ فيه المستشرقون بهذه الفرادة للإسلام، جاء المعاصرون من العلمانيين في الغرب والشرق ليطالبوا بفصل الدين عن الدولة، ويسوّقوا من تاريخ الإسلام ما يؤكد مزاعمهم أنّ الدين إذا تدخّل في السياسة أفسدها وأفسد حياة الناس، مستشهدين بأمثلة حتى أثناء الخلافة الراشدة على تأثير الخلاف الديني على حياة الناس، وأنّه لما اختلف المسلمون على الحكم على أساس ديني وزعمت الفرق أنّ كلاً منها على حق حصلت الفتنة واقتتل الناس.

وهذه الاستشهادات منقوصة ومجزوءة، ولا تأخذ السياق الكلي في الموازنة بين ما أنجزه الإسلام من حضارة للعرب، مقابل ما أخطأ به بعض الأشخاص ونسب إلى الإسلام بحكم مواقعهم وتأثيرهم في الخلافات الأموية والعباسية وما لحقهما.

وعزز الغرب من محاولات تجذير العلمانية في الشرق، لأنه أدرك منذ الحروب الصليبية، التي قامت على أساس ديني واضح، أنّ تمسك الناس بالدين سيحول دون التمكين لهم في الشرق وتحقيق أهدافهم الاستعمارية، فالدين أقوى أسلحة محاربة الاستعمار بما يملكه من قوة روحية تعدّ الأفراد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الوطن. والغرب - وإن تعلمن ظاهراً - إلاّ أنّ باطنه وبالذات مؤخراً عاد ينزع إلى التديّن، بل ظهرت في أمريكا تيارات مسيحية توراتية ترى وجودها وحربها القادمة مع العالم على أساس ديني.

فكان إذن لا بدّ من نزع الدين عن الدولة وتقييده بالمناسك، واعتبار ذلك حرية شخصية في الالتزام والتطبيق لمن أراد لمزيد من الإسقاط والإبعاد عن الدين، ولردم الفجوة قامت حركات الصحوة والتوعية والإصلاح الديني في مطلع القرن الماضي لإخراج المسلمين من بدَع التصوف وبدع التشدد وتقديم الإسلام بصورة شمولية لكل مناحي الحياة، كدين للحكم لا ديناً للتبتُّل في الغرف المغلقة فقط! وأخذت هذه الحركات دورها في محاربة الاستعمار في بلادها فكان لا بدّ من محاربتها، بل واعتبارها العدوّ الأول للغرب والقوى العظمى، بعد سقوط الشيوعية. ولقد أعلن ذلك مؤخراً مركز «راند» للدراسات في أمريكا واعتبر حركة الإخوان المسلمين عدواً أول لأمريكا كبديل للعدوّ التقليدي لسنين: تنظيم القاعدة، مع الفارق العظيم الذي لم تعره أمريكا أيّ اهتمام في أن الحركة اجتماعية سياسية إصلاحية سلميّة، والثاني تنظيم عسكري وصل تأثيره إلى أمريكا في عقر دارها، إلاّ أنّ من ينازع أمريكا سياستها ومكانتها يصبح قابلاً للتنصيب كعدوّ لأمريكا بما يحمله ذلك من تبعات إقصائية.

وكان لا بدّ أيضاً من تشويه صورة الإسلاميين، وظهرت تشدّقات لغوية تفرّق بين المسلم والإسلامي والمتأسلم، والدين والتديّن، وأنّ الدين لله والوطن للجميع، وأنّ الدين علاقة شخصية بين العبد وربه ليس بالضرورة أن تنعكس على واقع الحياة، واتخذت الدول جميع التدابير للقضاء على الحركات الإسلامية في العهود المختلفة بدعوى أنّهم بمجموعهم لا يمثّلون الإسلام، حتى في أعمالهم الخيرة التي سدوا فيها مكان الدولة في توفير عيش كريم وثقافة للشعوب، وزادت التصنيفات للطيف الإسلامي ما بين المعتدل والسلفي والوهابي والأصولي والوسطي، وكثير منها يحمل معاني سلبية حرص المجتمع الدولي على إلصاقها بالحركات الإسلامية لتسهل شيطنتها والتخويف منها ووضعها على قوائم الإرهاب، ما يعني حكماً بالقضاء عليها وملاحقتها.

ومع إصرار عقلاء الجماعة ومناصريهم والطيف الكبير من غير الإسلاميين على السلميّة في مواجهة الآلة العسكرية، إلاّ أنّ استمرار سيل الدماء والتعذيب والكبت سيؤدي إلى انفجار الشباب يوماً، فهم يدركون أنّ ساستهم ما هم إلاّ فزاعات بيد أمريكا والمجتمع الدولي، وأنّ أمريكا هي السبب في ما يحصل لهم ولدولهم. وفي فترة لن يمكن ضبط الفيضان إذا انفجر غضباً لحمّامات الدم المسلم التي تجري في كل مكان بتدبير أو معونة أو سكوت أمريكي ودولي.

إنّ اتجاه الشباب والجيل العربي القادم نحو العسكرة والتطرف والضيق بالآخر ستصيب آثاره السلبية البعيد قبل القريب، وأمريكا والغرب قبل غيرهم، ولقد أثبت الإسلاميون في التعامل مع الانقلاب على الشرعية في مصر أنّهم يؤمنون ويمارسون أعلى درجات ضبط النفس، حتى مع علوّ فاتورة التضحية، وما ذلك إلاّ لتجنُّب إسالة مزيد من الدماء الطاهرة، حتى لو عنى ذلك أنّ الإسلام- وليس الإسلاميين - سيعود محارباً كما كان، وكل من اتبعه وطالب بتطبيقه في واقع الحياة سيكون في أحد مكانين، إمّا وراء قضبان السجن أو تحت أطباق الأرض.

لقد أثبت الإسلاميون في تجربة الاعتصام السلمي في مصر لمناصرة الشرعية أنّ شيئاً من المدينة الفاضلة التي تغنّى بها الفلاسفة على مرّ العصور قابل للتحقيق، ليس فقط على مستوى الأخلاق والدين ولكن على مستوى الاختراعات والفن والأدب والتكافل والحياة الاجتماعية المنظمة والمنجزة في كافة صورها.

دماؤنا غالية وشهداؤنا أغلى، ولكن إذا كان لا بدّ من دفع هذه الضريبة للوصول إلى المرحلة النهائية من إنقاذ الشعوب من قبضة أمريكا وإشاعة العدل والأمن والازدهار ورفع سوية البشر فيها فبها ونعمت، ولقد قالها البنا قديما: «ونحب أن يعلم قومنا أنّهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنّه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمناً لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم، وإنّه لعزيز علينا جدّ عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس».

فليس ما حصل بجديد أو غير متوقع، ولكن استمرار المآسي دون أفق ولا بشرى باقتراب الفجر، حتى مع التأكيد على الوسطية والاعتدال والتدرج، ليس في مصلحة الغرب المتآمر أو المحايد، ستخسر الشعوب العربية بتنحية الإسلاميين.. من يدافع عن حقوقها وكرامتها ويحاول تقديمها للعالم كشعوب ودول تستحق الاحترام؟!

ستخسر الشعوب المسروقة بتنحية الإسلاميين من مائها وهوائها وغذائها وثروتها أناساً أثبتوا أنّ الوصول إلى كرسيّ الحكم لا يقترن بالضرورة بموت الضمير والسرقة وغمس اليد في أموال الشعب.

ستخسر الشعوب العربية بتنحية الإسلاميين حكومات بأشخاص يعرفون أكثر بكثير من فك الخط والأبجدية وجدول الضرب وطاعة العسكر ويحاولون التطور ببلادهم.

ستخسر الشعوب العربية بتنحية الإسلاميين حكاماً كان هدفهم المستقبلي تحرير فلسطين والمقدسات الإسلامية، ولم يكتفوا بالتشدق وتوفير الأسلحة الفاسدة كغطاء للهزيمة.

سيخسر العالم بتنحية الإسلاميين المعتدلين كما خسر عندما نحّى الإسلام ومبادئه الإنسانية التي نزلت رحمة للعالمين، وستحرقهم النار كما تحرقنا، فليس عند المهزوم إذا وصل مرحلة اليأس ما يخسره، وتكون مرحلة «عليّ وعلى أعدائي».

لا تنازل عن الشرعية، كما لن نخرج من ديننا ومبادئنا لأيّ كان مهما كان، ولن نقنط كذلك.. فسنن الله غلّابة وهي فوق أمريكا وما تكيد.

ليس دفاعاً عن الإخوان فقط!