يعد المفكر الإسلامي التونسي الدكتور أبو لبابة حسين، الأستاذ بجامعة الإمارات، عضو مجلس حكماء المسلمين ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر؛ أحد أعلام الحديث والسنة النبوية في عصرنا، وقد تعلم في تونس وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة الأزهر، ووصل إلى منصب رئيس جامعة الزيتونة، ولهذا فإن الحديث معه عن السنة النبوية والحرب عليها سواء من أبناء جلدتنا أو المستشرقين والملاحدة حديث ذو شجون، وقد التقيناه بالقاهرة أثناء مشاركته في مؤتمر «الأزهر والسلام العالمي»، وكان لنا معه هذا الحوار:

في البداية نود التعرف إلى مكانة السنة في التشريع الإسلامي خاصة في ظل كثرة التشويه لها والهجوم عليها؟

السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، ولها دور كبير جدا في نقل حقائق الإسلام للناس، فهي تؤكد ما ورد في كتاب الله، وتقيد ما ورد مطلقاً فيه، وتخصص ما ورد عاماً، وتبسط ما ورد مختصراً، وتبين ما ورد مشكلاً في القرآن، بل وتشرح القرآن شرحاً نيراً مستفيضاً واضحاً كريماً، فليس هناك من يفهم القرآن ويدركه إدراكاً جيداً ويفهم أسراره وخصائصه مثل محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الإمام أبو حنيفة النعمان «لولا السنة ما فهم منا أحد القرآن».

ولهذا فإن السنة مهمة جدا لمن يريد أن يفهم الإسلام ويطبقه. ولا يشكك بها إلا جاهل أو حاقد. هل الإيمان والعمل بالسنة شرط في الدين أم يمكن الاكتفاء بالقرآن كما يزعم البعض؟ النبي صلى الله عليه وسلم دعانا إلى وجوب التمسك بالسنة في حديثه الشهير: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي»، وقال أيضا: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ».

وقد أمرنا الله تعالى بوجوب التمسك بالسنة النبوية فقال: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب». وقال سبحانه أيضاً: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما». وقد حذرنا رسول الله من أقوام تخرج على المسلمين ويزعمون أن الإسلام هو القرآن فقط ويطلقون على أنفسهم «القرآنيين»، فقال فيهم صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه....».

أدلة واهية

لكن هؤلاء القرآنيين يتبعهم أناس ويحشدون بعض الأدلة التي يؤيدون بها مذهبهم الفاسد في اعتماد القرآن وحده أصلا لفهم القرآن والاستغناء عن السنة.. فما ردكم على أدلتهم؟
الأدلة التي يعتمد عليها منكرو السنة واهية مثل قول الله تعالى: «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وقوله «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين». وطالما أنه كذلك فنحن لسنا في حاجة إلى شيء آخر إلا القرآن، ويزعمون أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة القرآن حال نزوله، أما السنة فلم يأمر بكتابتها، واستشهدوا بحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم «من كتب عني غير القرآن فليمحُه»، فلو أن السنة مصدر من مصادر التشريع لأمر النبي بكتابتها، والرد على تلك الشبهات الضعيفة أن النبي إذا كان قد قال: «لا تكتبوا عني غير القرآن»، فهناك عشرات الأحاديث الأخرى التي تأمر بكتابة السنة النبوية الشريفة، فحديث النهي عن الكتابة، نسخ بالأحاديث التي تدعو إلى الكتابة، وقد كتب كثير من الأحاديث وهذا ما نجده مثلاً في صحيفة سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص الشهيرة المعروفة باسم «الصحيفة الصادقة»، وهناك صحف أخرى كثيرة حتى أن أحد علماء الأزهر وهو الشيخ سيد أحمد صقر رحمه الله قد كتب كتيبا صغيرا سماه «المدخل إلى فتح الباري» تحدث فيه عن الكتابات التي كتبت منذ عهد النبي ويقول «من الحقائق المطوية في بطون الكتب أن السنة النبوية قد كتبت منذ عهد النبي، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أسهم في كتابة تلك الأحاديث بما أملاه وبما كتبه للملوك والعمال والقضاة ولبعض المسلمين وقادتهم.

تمحيص السنة
كيف تم تمحيص وغربلة الأحاديث من بعضها البعض لمعرفة الصحيح من غيره؟
ليس هناك ميراث أو تراث نبي تمت خدمته خدمة جليلة لم تترك شاردة أو واردة مثل ميراث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بحيث جمعت السنة وغربلت واستبعدت الموضوعات والأكاذيب والتخرصات، ولم تبق إلا السنة النقية الصافية التي 99% منها تثبت نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم من خلال علوم الحديث المتعددة ومنها الجرح والتعديل وغيره، وعنيت الأمة بالسنة النبوية في أخلاقها وتشريعاتها وسلمها وحربها وشؤونها الاجتماعية وحياتها السياسية، فضلا عن أن فيها الأدب واللغة والتاريخ والفقه والأصول والنظرات المستقبلية وعالم الغيب، أي أنها تضم كل شيء، ولهذا فإن كل من يريد أن يلم بالإسلام ويعرفه عليه أن يعود إلى السنة، ولهذا قال العلماء: «إن القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن الكريم»، فلا يجوز بحال لإنسان يريد أن يعرف الإسلام ويلم بمعالمه الصحيحة من دون أن يلم بالسنة لأنه من دونها لا يمكن أن يفهم القرآن ولا يعرف التعاليم التي أمر الله بها المثبتة في كتاب الله والمشروحة والمبينة بالتفاصيل الدقيقة في السنة النبوية المطهرة.

كيف تفسر إصرار الطاعنين في السنة رغم ردود العلماء على الشبهات حولها؟

كل من يعترض على السنة أو يقلل من شأنها لا يخلو أمره من أمرين أولهما أن يكون جاهلا وثانيهما أن يكون عدوا للإسلام الذي هو كطائر جناحاه القرآن والسنة. التناقض المزعوم
لكن بعضهم يزعم بأن السنة نفسها فيها تناقض بين بعض الأحاديث؟

هناك علم في السنة النبوية يتناول ما سماه أهل الحديث «الأحاديث المشكلة»، أي الأحاديث المحمولة على غير محاملها، كما أن هناك من الأحاديث التي لم تفهم على أصولها وهي تسمى «الأحاديث المختلفة»، وهناك أحاديث تسمى «الناسخ والمنسوخ» أي أن النبي يقول مرة «افعل» ومرة «لا تفعل»، مثل أحاديث «ألا كنت قد نهيتم عن زيارة القبور ألا فزوروها»، وهذا ليس تناقضا وإنما نسخ لأن الأحكام تتطور بتطور المجتمعات، فكان النهي عن الزيارة في ظروف معينة ثم تغيرت هذه الظروف فسمح بزيارة القبور شريطة أن يحترم الزائر المقابر وينفذ التعاليم الإسلامية ويحيي ويسلم على كل الموتى ويدعو لهم بالرحمة ثم يدعو لقريبه من دون أن يجلس أو يصلي على قبر أو يزخرفه وغير ذلك.

وهناك أحاديث أخرى يأمر فيها الرسول الصحابة بأن يستهلكوا لحوم الأضاحي في ظرف ثلاثة أيام لأنه كانت هناك ظروف صعبة ويريد أن يكفي اللحم كل المحتاجين، ولكن بعد ذلك قال لهم «كلوا وتصدقوا وادخروا»، فالحديث الأول نسخ وحل محله الحديث الثاني الذي نعمل به إلى يومنا وغير ذلك الكثير، ومن أمثلة «الحديث المختلف» قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ويقول في حديث آخر: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»، وقد أوجد العلماء لها بعض الحلول المناسبة، وهناك «الأحاديث المشكلة» ومثالها أن أهل أبو جهل عندما أرادوا أن يزوجوا ابنتهم للإمام علي بن أبي طالب سألوا النبي فأبى قائلاً:
«إلا أن يطلق ابنتي فاطمة»، فالمشكلة هنا أن المسلم يحق له الزواج بالثانية والثالثة والرابعة فكيف يمنع النبي زوج ابنته الإمام علي من التعدد المباح شرعا، وتمت دراسة الأمر فوجد العلماء أنه لا يمكن أن تجتمع ابنتا نبي الله وعدو الله، وقد جمع العلماء مثل هذه الأحاديث في كتب كاملة ومنهم ابن فورك في كتابه «مشكل الحديث» وكذلك ابن قتيبة وغيرهما، وبهذا تم حل كل الإشكالات حتى إن ابن قتيبة قال «أتحدى أي إنسان يأتيني بحديثين صحيحين متناقضين»، وبالتالي فإن من يقول إن في السنة اختلافا أو تضاربا أو تناقضا فهذا نتيجة الجهل، لكن إذا عادوا إلى كتب علمائنا وأسلافنا ودرسوها دراسة واعية ومتفحصة سيدركون أن السنة الصحيحة ليس فيها تضارب أو تناقض على الإطلاق لأنها قيلت بوحي من الله على نبيه الذي لا ينطق عن الهوى، كما أنها محفوظة مثل القرآن الذي وعد الله بحفظه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، كما قال عن السنة «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه»، والمتكلم هنا هو الله الذي وعد بحفظ بيان القرآن وهو السنة.

نماذج عملية
نود التعرف على نماذج من جهل وأكاذيب بعض الطاعنين عمليا؟

الطاعنون إما جهلة مثل القرآنيين وإما أن يكونوا أعداء للإسلام كالمستشرقين مثل جولد زيهر، هذا اليهودي المجري الذي ادعى أن أغلبية السنة في مجملها لا تمثل الوثيقة الصحيحة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي أحاديث وضعها المسلمون بعد أن انساحوا في الأرض وكونوا قوة حضارية ومادية ودخلوا في الترف، فوضعوا مثل هذه الأحاديث ووضعوا لها أسانيد مفتعلة ربطوها بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولا تمثل الحقيقة على الإطلاق، وهذا ادعاء باطل، لأن الصحابة الذين رووا السنة النبوية كانوا قد تفرقوا في الآفاق في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، لكن نجد أن ما أخبروا به كله متوافق ومتناسق سواء ممن ذهب إلى أقصى المشرق أو المغرب والتعاليم واحدة، فلو كانت موضوعة لكان كل يغني على ليلاه ويدلي بدلوه بعيدا عن الآخر، لكن لأنهم كلهم أخذوا من منبع واحد وهو الرسول وحفظوا منه مباشرة فإن كل التعاليم والأحكام نجدها واحدة بلا اختلاف بين المسلم الذي يعيش في أقصى المشرق أو المغرب، فما هو حلال عند هذا حلال عند ذاك، وما هو حرام عند هذا حرام عند ذاك، فهذا دليل على أن السنة قد اكتملت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل أن النبي قال «تركت فيكم...» ومعنى هذا أنها اكتملت وانتهت وأثبت هذا القرآن الكريم في قول الله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا»، وبالتالي فإن كمال النعمة وإتمام الدين - الذي هو كتاب وسنة - دليل على اكتمال السنة.

عداء قديم
ما تفسيركم لعداء المستشرقين للإسلام عامة والسنة النبوية خاصة؟

عندما انهزم الغربيون الفرنجة المعتدون على بلاد الإسلام في الحروب الصليبية عسكرياً وحضارياً وأدركوا أن هزيمة المسلمين بالسيف مستحيلة فكروا في وسيلة أخرى لهزيمة المسلمين بأن يجعلوهم يشكون في دينهم وحضارتهم، عن طريق استهداف السنة، وبالتالي فإن أهداف المستشرقين واضحة، وهي تشويه الإسلام حتى يضعوا سدا فاصلا بين أقوامهم الغربيين وبين الوصول إلى الإسلام، لأنهم يدركون أن الإسلام إذا وصل إلى تلك الشعوب بطريقة واضحة فإنها ستدخل في الدين أفواجا، لهذا فهم يشوهونه، فمثلا«شاخت»، هذا المستشرق اليهودي الألماني، يؤكد أنه لم يصح حديث واحد، والأحاديث كلها موضوعة ومكذوبة، وبالطبع هذا كلام مرفوض، وبلغت قمة أكاذيب المستشرقين عندما أعلن بعضهم أن الإسلام لم يكتمل إلا عندما عاش المسلمون مع المسيحيين بعد الفتوحات فأدركوا الكثير وتمموا دينهم وأكملوا كثيرا من معالم الإسلام، وبالتالي فإن التشكيك في السنة وإبعادها عن القرآن سيجعله منغلقا ولا يستطيع المسلمون أن يقيموا دينهم وهذا هو هدفهم الأسمى.

تشويه أبو هريرة والبخاري
ما تفسيركم للهجوم الضاري على الصحابي الجليل أبي هريرة راوي أكبر عدد من الأحاديث.. ليس من المستشرقين فقط بل من بعض المنتسبين للإسلام؟

الصحابي أبو هريرة رغم أنه آمن متأخرا، إلا أنه كان ملازما للنبي ومن «أهل الصفة»، والأهم أنه قال للنبي: «يا رسول الله إني أسمع منك الكثير ولكني أنسى» فدعا له النبي بألا ينسى أي شيء، ودعوة النبي مجابة، ومن هنا فإن كل ما تلقاه وسمعه من النبي حفظه ولم ينسه ببركة دعاء النبي، وتفرغ للسنة وكثر طلابه والصحابة أنفسهم قالوا له «لقد أكثرت» فقال لهم «إنني لا أروي إلا ما سمعته من النبي»، واعترفوا له بالفضل والحفظ وأدركوا أن ما يرويه إنما سمعه من النبي، ولهذا يحاول أعداء الإسلام هدمه وتشويه صورته لهدم الدين نفسه، ولا يكتفون بذلك بل إنهم يهاجمون كذلك الإمام الزهري، وهو أول من دعا إلى حفظ الحديث وخدمته ودراسة الأسانيد.

هذا عن أبي هريرة والزهري، فماذا عن الإمام البخاري؟

بداية أقول: إن تهجم «القرآنيين» على أبي هريرة والبخاري جريمة كبرى والإمام البخاري هو إمام الأمة، وقد قضى أكثر من 18 سنة وهو يجوب بلاد الإسلام يلتقي العلماء ويتلقى عنهم العلم ويغربل العلم الذي يتلقاه فلا يكتب في كتابه إلا ما صح وما ثبت تماما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، ولهذا فإن العلماء عندما فحصوا الأسانيد وجدوا أصح إسناد عنده أو ما يطلقون عليه «سلسلة الذهب»، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر، كما أن كتابه الجامع الصحيح» خطط له في الروضة النبوية الشريفة، وقد جمع البخاري العلم الواسع بالنصوص واللغة والنحو والصرف ثم بالرجال، فعنده «التاريخ الكبير» الذي يتضمن ترجمة أكثر من 12 ألف راوٍ، وعنده «التاريخ الأوسط» وكذلك «التاريخ الصغير» ثم هو يقول بأن كل راوٍ من الرواة عنده له قصة، لكنه يأبى التطويل ويميل إلى الاختصار، كما أن «الجامع الصحيح» لا يتضمن إلا 2600 حديث متصل مرفوع إلى النبي، وبقية الأحاديث كلها مكررات أو أحاديث استشهد بها في التراجم التي هي أصل الكتاب، وجاء بها للاستشهاد والاستئناس لأن البخاري فقيه مجتهد وليس عالما عاديا، ولهذا يقول العلماء «فقه البخاري في تراجمه» وقد تلقوا كتابه بالقبول وأجمعوا على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وليلة وفاته رأى أحد الصالحين في رؤية صالحة أن النبي صلى الله عليه وسلم واقف ينتظر أحداً، وعندما سئل عمن ينتظره. قال النبي «محمد بن إسماعيل»، (أي البخاري).