"إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون / وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" [آل عمران:160-161]،

"وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" [الأنفال:17]. وغير هذه الآيات الكثير التي تخاطب الأنبياء عليهم السلام، أو تتحدث عنهم، وهي تنطوي على صراحتها المطلقة في التزام الحق، حيث لا مجال للمجاملة على الإطلاق. يا الله! كم أن هذا الكتاب العزيز يؤكد المرة تلو المرة، والحالة تلو الحالة، تنزّله من السماء فيقطع الألسنة المتشككة، والأيدي المرتجفة التي تقول: إنه من صُنع محمد! ها هنا في هذه الآيات إنذارٌ صريح، عارٍ عن أي قدرِ من المجاملة أو التبرير في أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء أن يخذل المؤمنين، بسبب مما تصنعه أيديهم، فلن يوقفه شيء على الإطلاق، والنبي الذي يغل - وحاشاه - يأتي بما غلّ يوم القيامة لكي يحاسب عليه أسوةً ببني آدم جميعاً، حيث لا خصوصية، ولا حماية، ولا مجاملة على الإطلاق.

ويوماً تساءل المسلمون الذين هزموا في معركة «أُحد»: كيف؟ ونحن جند الله الذين يعملون تحت قيادة رسوله "صلى الله عليه وسلم" الموعود بالنصر من السماء.. كيف؟ ويجيء الجواب الحاسم القاطع كالسكين:

"أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم" [آل عمران:165]،

فها هنا توضع النقاط على الحروف، دون مواربة أو مجاملة، وحاشا لكتاب الله، فبيّن لهم أنهم، وقد مارسوا خطأين كبيرين، كان لابّد من تلقّي العقاب. أكثر من هذا، إن القرآن الكريم طالما نبّه رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وحذّره في الوقت نفسه، في ألاّ يهادن الخصوم مهما كانت نيتّه سليمة صادقة ورغبته في كسب المزيد على صف الإيمان، حذّره أيضاً من ألاّ يجامل ذوي النفوذ والمال على حساب الفقراء والمعدمين، وكلنا نذكر الآيات الأولى من سورة «عبس» التي تعاتب الرسول "صلى الله عليه وسلم" على أحد مواقفه في هذا الخصوص:

"عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ / أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ / وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ / أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ / أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ / فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ / وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ / وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ / وَهُوَ يَخْشَىٰ / فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ / كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ " [عبس:1-11].

بل إن القرآن يعلن عن مضاعفة العقوبة لرسول الله إذا حدّثته نفسه - وحاشاه - أن يميل أو يهادن لمصلحة الدعوة:

"وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا / وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا / إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا" [الإسراء:73-75].

ويمضي القرآن مصعداً موقفه الحاسم من رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حتى ليبلغ به الأمر أن يصدر إعلانه الخطير الذي ينطوي على التهديد والتنديد:

"وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ / لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ / ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ / فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" [الحاقة:44-47].

إنه الذبح إذن من الوتين إلى الوتين دون أن يجرؤ أحد، كائناً من كان، على تخليصه! يا الله! إلى هذا الحدّ يا رب العالمين؟ ومع من؟ مع رسولك الذي قلت فيه: "فإنك بأعيننا" [الطور:48]، ورفعته إلى القمة بقولك: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم:4].

فأي تكشف إلهي هذا؟ وأي صدق مطلق في التعامل مع النبوّات؟ وهل يعقل - إذا أخذنا بخرافة خصوم هذا الدين من أن هذا الكتاب هو من صُنع محمد - أن يخاطب محمد نفسه بهذا الخطاب، ويندّد بنفسه هذا التنديد المرعب الخطير؟ لا والله، إنها خرافة تمثل الدرك الأسفل من الغباء الذي يعتّم الرؤية فلا يكاد أصحابه يرون الأشياء على حقيقتها، ولا يقدرون على التفريق بين الأبيض والأسود.. فلا حول ولا قوة إلا بالله!