تجتاح عالمنا الإسلامي موجة عاتية من التطرف باسم الجهاد تارة، وباسم إحياء الخلافة الراشدة تارة أخرى، وقوام هذه الموجة وغيرها استنساخ الماضي بشكل أعمى تماماً على أنه هو ولا غير مكمن المجد والسؤدد في الدنيا والخلاص في الحياة الأخروية. ومادة هذه الموجة الشباب المتحمس الذي لا يملك أي ثقافة دينية وتاريخية سوى الحماس لما يسمى بالماضي المجيد دينياً ودنيوياً، ويقف خلفهم "علماء" يصبون كل الأفكار الإسلامية بقالب يدعونه "سلفياً" يمثل حقبة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة والتي لا تتعدى فترتها الزمنية أربعة عقود، مهملين كل ما تفرع عن الفكر الإسلامي العميق على مدار قرون عديدة، وكأن الحياة قد توقفت عند هذا الحد، وأن الإسلام لا يستطيع التعامل مع تطورات الحياة والمجتمعات المختلفة، وقد وجدت القوى المناهضة للمسلمين في هذه الفئة ضالتها لإظهار الإسلام بصورة بشعة وإرهابية، ثم نصبت نفسها هذه القوى على أنها المخلص والمنقذ من هذه الجماعات المتطرفة التي شوهت صورة الإسلام بمناظر القتل والذبح وبطرق لم تمر على بال أحد، وأحداث العراق الجارية خير مثال لذلك.

وضمن هذه الدوامة الفكرية والسياسية العمياء، صرح أحد "الشيوخ" بأن "الإسلام لم يحرم سبي النساء، ومن ينادي بتحريم السبي فهو جاهل وملحد، وأن هذا الحكم مرتبط بالقرآن ولا يمكن إلغاؤه طالما استمر الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ذلك حكم الله، لا محاباة ولا مجاملة لأحد، ولو كان الرق باطلاً لكان الإسلام قد صرح بذلك كما فعل في الربا والزنا، فالإسلام شجاع ولا يجامل"! والنص على قصره يحمل في طياته كل معالم الفكر الظاهري الجامد المتشنج والذي لا يتردد عن كيل الاتهامات لكل من يبدي رأياً مخالفاً بالجهل والإلحاد؛ أي التكفير المبطن، وهو يعتمد على الآية القرآنية عن إباحة الزواج؛

"وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ" [النساء:25]

وما قبلها من الآيات. إن مقارنة الأحكام الدينية والشرعية وخلطها هو الجهل بعينه، فمقارنة تحريم الزنا والخمر بعملية عدم تحريم سبي النساء والأطفال هي مقارنة جوفاء، وهو منطق أقل ما يقال عنه بأنه بدون معنى بتاتاً، فالسبي خارج نطاق دائرة الحروب مرفوض رفضاً باتاً، وفي كل الأزمان والأماكن، إن تحدث الفقهاء فيه أو لم يتحدثوا، وأن هذه المسألة تحتاج لمعالجة حديثة في الفقه الإسلامي على ضوء ما حصل من تطورات في بنى المجتمعات والدول الحديثة.

فالسبي في الحروب كان عرفاً يسود العالم كله آنذاك، ونتيجة من نتائجها، وفي نظر الإسلام لا يعد سبباً ودافعاً من أجله تقوم الحروب، ولو أبطل أعداء الإسلام واتفقوا على إلغائه لما تردد المسلمون لحظة واحدة على الاتفاق بهذا الشأن، فمن أكثر الأمور التي حث الإسلام عليها هي تحرير الرق واتخاذه كفارة لكثير من الذنوب كما هو معلوم ولا داعي لإعادته. والشيخ يفتح باباً واسعاً لتكفير المسلم ومحاربته باسم الدين؛ وبالتالي سبي النساء والأطفال بين المسلمين أنفسهم، كما حدث في الماضي القريب في أرض الجزيرة العربية وغيرها، وصارت عند الأعراب عرفاً سائداً.

والشروط التي وضعتها الشريعة في موضوع سبي الحروب تعد إنسانية وتقدمية ومخالفة لكل ما كان عليه غير المسلمين في هذا الشأن، حيث لم يكن السبي إلا اغتصاباً ودونية للإنسان ما بعدها دونية أخرى، فالتوراة وهي شريعة اليهود والنصارى تقول وبالنص مخاطبة أتباعها: "فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال واقتلوا أيضاً كل امرأة ضاجعت رجلاً، ولكن استحيوا لكم عذراء لم تضاجع رجلاً" (17 - 18، 31 العدد)،

وهذه من تعليمات فتح المدن التي يسلمها الرب لأعداء بني إسرائيل والتي طبقها الصرب في البوسنة باغتصاب أكثر من ستين ألف عذراء مسلمة! هذا هو العرف السائد آنذاك، فهل كان الإسلام بإمكانه أن يلغي كل شيء دفعة واحدة في زمن لم تتوقف فيه الحروب؟! إن ما لا يدخل عقلية هؤلاء الشيوخ مسألة سقوط الأحكام الدنيوية البحتة بالتقادم الزمني إذا ما استدعت الظروف أحسن منها، فأصل الشرع مصلحة الأمة الإسلامية فرادى وجماعات وبما لا يخالف محارم الله.

فلو ترك المجاهد مسألة السبي لأي سبب كان فإنه لا يأثم كإثمه لو مارس الزنا أو شرب الخمر، ولا يقام عليه حد ولا يعاقب في الدنيا والآخرة، فإباحة الشيء دنيوياً لا يعني به حكم الإطلاق على مدار الزمن. لقد تغير شكل الدولة ومكوناتها وتغيرت المجتمعات، فلو أبحنا الآن عملية سبي الأقليات المسلمة في دول مثل الهند والصين وروسيا على طريقة "داعش"، فإننا نفتح الباب على مصراعيه لتعريض الأقليات المسلمة في كل مكان للسبي وأخذ الجزية والمهانة، وعند ذلك سنقف كالبلهاء أمام مثل هذه الفتاوى والتي لا تعير لتغير أحوال الدنيا أي اعتبار.

إن وقف العمل بالنص القرآني لا يعني التطاول عليه أو نسخه كما يعتقد البعض، فالآية القرآنية:

"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة: 60].

واضحة في إعطاء من يستحق الزكاة، ورغم ذلك فقد أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر بعدم إعطاء المؤلفة قلوبهم، وهم الذين دخلوا الإسلام من غير أن يرسخ الإيمان في قرارة نفوسهم خصوصاً عند فتح مكة، فإبطال إعطاء هذه الفئة كان مرهوناً ما بين دخولهم الإسلام وتقادم الحكم بعد وفاة الرسول وتمكُّن المسلمين وعلو شوكتهم، وبالمقارنة فلا توجد آية في القرآن تحض على السبي وتجعله جزءاً من الشرع أو من طاعة الله إذا خالفه أحد يصبح مرتداً أو كافراً وما يتبع ذلك بالتقادم من مسائل ملكية اليمين.

فهل تعتبر مسألة تعطيل جزء من النص تطاولاً والعياذ بالله من عمر على نص قرآني صريح، أم اجتهاداً فرضه تغير العامل الزمني وتداخله مع النص؟! لقد آن الأوان لإحياء الفكر الإسلامي على أسس معرفية وشرعية تعمل على تحرر الأحكام من القراءات التاريخية الجافة لبعض من يدعون معرفة الفقه وأصول الدين، وأما غيرهم فلا يعرفون شيئاً، وألصقوا بهم أسماء وألقاباً ما أنزل الله بها من سلطان، وأن كل من خالفهم هو من الفرق الداخلة في النار، فأشاعوا بين الشباب عقدة الخوف من النار وشهوة الذهاب للجنة بدون علم ولا هدى. لقد دخلوا القبو وأحكموا الغطاء فوقهم، ثم تداخلت المصالح واللعب السياسية القذرة مع هذا الفكر المنغلق لنرى أنفسنا في أسوأ وضع مر عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرناً