يستقبل العالم الإسلامي بعد أيام قلائل شهر رمضان المعظم، ويطلُّ علينا هذا الشهر الفَضِيل بخيراته وبركاته ونفحاته وخيراته، وينتظر المسلمون قدومه بفارغ الصبر، ويجدون فى قلوبهم شوقاً وحنيناً لهذا الضيف القادم، ويبدأون فى الاستعداد لاستقباله،كيف لا؟! فهو شهر أنزل الله فيه القرآن، وفرض فيه الصيام، وفتَّح فيه أبواب الجنان، وغلَّق فيه أبواب النيران، كما هو شهر الصبر والمواساة والتقوی، شهر يتعرض فيه المؤمنون للنفحات الإيمانية، تلك النفحات التي عبر عنها المصطفی صلوات ربِّي وسلامه عليه فيما رواه الطبراني بقوله:«إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ فَتَعَرَّضُوا لَها، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا». ولاشك أن شهر رمضان المعظَّم إحدی هذه النفحات القدسيَّة التي تُطلُّ علينا كلَّ عام.

يقول الإمام المناوي في شرح هذا الحديث: «ومقصود الحديث: أن لله فُيوضاً ومواهب تبدو لوامعُها من فتحات أبواب خزائن الكرم والمنن في بعض الأوقات، فتهُبُّ فورتها ومقدماتها كالأنموذج لما وراءها من مدد الرحمة، فمن تَعرَّض لها مع الطهارة الظاهرة والباطنة، بجمع همَّة وحضور قلب، حصل له منها دفعةً واحدةً ما يزيد على هذه النِّعم الدائرة في الأزمنة الطويلة على طول الأعمار». [1]

وبهذه المناسبة أودُّ أن أشير إلی إحدی هذه النفحات الرمضانية:

لا شك أن الحكمة السامية من الصيام تتلخص في حصول التقوی، يقول الله تعالی:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»[البقرة: 183] ولكن كيف يتمُّ حصول التقوی بأداء الصيام؟ 

التقوی فى معناها اللغوى مأخوذة من وقی الشيء وقياً و وقاية: أي صانه من الأذى وحفظه، يُقَال وَقَاه الله من السوء. [2]

وأَصْلهَا "وَقوَى" على فَعلَى من وقَيتُ، فلمّا فُتِحت قُلبت الْوَاو تَاءً، ثمَّ تُركت التَّاء في تصريف الْفِعْل على حَالهَا فِي التُّقى والتَّقوَى والتَّقِيَّة والتَّقِيّ والاتقاء. [3] فالتَّقيُّ والمتَّقي هو من اتخذ لنفسه وقاية وحفظًا من شيء ما، ففي الوقاية الصحية مثلاً؛ يتخذ الإنسان لنفسه وقاية من الأمراض.

 فكيف يقي الإنسان نفسه من الأمراض؟ وما هي آليات الوقاية؟

إن آليات الوقاية تتلخص في شيئين اثنين:

الأول: اجتناب الجراثيم والفيروسات والأوساخ والأقذار بشكل عام.

الثاني: امتثال الوصايا الطبية والإرشادات الصحية في الحياة اليومية بشكل منتظم؛ مثل الأكل المناسب والشرب المناسب والنوم الكافي وممارسة الرياضة وما شابه ذلك.

فإذا اتبع الإنسان هذه الإرشادات الصحية وابتعد عن الجراثيم والفيروسات، سيتخذ الإنسان لنفسه وقاية من الأمراض، وبذلك سوف يحصل علی الصحة والعافية في الجسم. 

والأمر كذلك في الوقاية الإيمانية؛ حيث إن الإنسان المتقي يقي نفسه من غضب الله وسخطه، وذلك بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، فإذا فعل الإنسان ذلك؛ فقد وقی نفسه من غضب الله وسخطه، وبذلك سيحصل علی الصحة والعافية في الدين والإيمان.

والخلاصة أن حصول التقوی في الإيمان والجسم يتوقف علی مجموعة من الأوامر (افعل) والنواهي (لاتفعل)

هذا عن التقوی؛ ولكن بقي السؤال الأساسي وهو: كيف يساعد الصيام علی حصول التقوی؟ 

أجيب عن هذا السؤال بالمثال الآتي:

نفترض أننا نريد أن نخوض معركة مع عدو ما، ولدينا جنود غير مدربين لإنجاز هذه المهمة، فهل يعقل أن نجازف بأرواح آلاف من الجنود بدون تدريبات عسكرية مسبقة؟ وهل يمكن لهؤلاء الجنود أن يخوضوا هذه المعركة مقابل جنود مدربين مُدجَّجين بالسلاح والعتاد وينتصروا فيها؟

لا يعقل ذلك؛ بل يجب عليهم أن يقضوا دورات عسكرية ليأخذوا قسطاً من التدريبات وليتمكنوا من مواجهة العدو في ميدان القتال.

ولذلك نری أن دول العالم تُجرِي مناورات عسكرية منتظمة للجيش ويُلزم المواطنين بالخدمة العسكرية والتدريبات النظامية ليكون البلد دائماً علی أهبة الاستعداد لخوض المعارك المحتملة.

أو نفترض أن مُصارعاً يريد الفوز علی منافسه في حلبة المصارعة، فهل يعقل أن يدخل هذه المنافسة بصورة عشوائية عفوية وبدون تمرينات مسبقة؟ لاشك أنه بحاجة إلی تمارين وتدريبات قبل المباراة ليتمكن من مصارعة منافسه في حلبة المصارعة وإلا سيكون نصيبه الفشل.

هذا المثال ينطبق تماماً علی صيام رمضان؛ فنحن في هذه الدنيا أمام خصم لدود وعدوٍّ عنيد يتربص بنا طوال الوقت للإغواء والإضلال، وذلك هو الشيطان، وليس من السهل مغالبة الشيطان إلا إذا كان الإنسان علی قدر كبير من الاستعداد الإيماني والاتصال الرباني لمواجهته.

فشهر رمضان ذلك هو المدرسة أو المعسكر الذي يدخل فيه المؤمنون دورة تدريبية إيمانية لمدة شهر، ويقومون بتدريبات ضبط النفس وكبت الشهوة، حيث يقومون بترويض النفس وتدريبها بترك الطعام الذي كان حلالاً لهم في غير رمضان، والشراب الذي كان حلالاً لهم في غير رمضان، والجماع الذي كان حلالاً لهم في غير رمضان، وكذلك سائر المفطرات، وهم بذلك يقومون بتقوية عزيمتهم وإرادتهم وزيادة إيمانهم لامتثال أوامر الله، ومغالبة الشيطان وكبت الشهوات ومخالفة الهوی.

 إن الإنسان الذي تدرَّب في مدرسة رمضان، وروَّض نفسه علی مخالفة الشيطان وترك الشهوات، وكفَّ نفسه عن الطعام الحلال والشراب الحلال و...الخ في شهر رمضان، فهو قد أعدَّ لنفسه عُدَّةً في أن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه ويغلب الشيطان ويكفَّ عن الحرام في الشهور الأخری، وبعبارة أخری إن الصيام يُقوِّي إرادة الإنسان وعزيمته ويجعله يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه وهذه عين التقوی.

 ويمكن أن نقول إن المؤمن في شهر الصيام يُشبه الهاتف النقال إلی حد كبير، حيث إن الهاتف النقال يُشحَن بالكهرباء لسُويعات قليلة، ليكون قادراً علی تقديم الخدمة لساعات طويلة خلال اليوم والليلة، وهذا هو حال المؤمن في شهر رمضان؛ حيث إن المؤمن يشحن نفسه بشحنات إيمانية بالصوم وفعل الطاعة وترك المعصية، ليكون قادراً علی عبودية الله والتقوی في أحد عشر شهر آخر، وهذا هو السر في قوله تعالی: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( [البقرة : 183]  

 [1] فيض القدير: 1/541

 [2] المعجم الوسيط، 2/1052

 [3] انظر: تهذيب اللغة:9/279