من المفاهيم التى يرددها قادة جماعة الإخوان المسلمين ويربون عليها أتباعهم التى تعلموها من مرشدهم حسن البنا رحمه الله أن طريق الدعوة طريق واحد سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده كما سار عليه الدعاة، وما زلنا نسير عليه ونربى نحن الإخوان المسلمين عليه الأجيال ليواصلوا المسير حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، ألا وهو انتصار هذه الدعوة فى نهاية المطاف مهما طال الطريق ومر الزمان قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [سورة غافر: 51].
ذلك لأنه طريق إيمان وعمل ومحبة وإخاء ثم جمع القلوب على الحب والوحدة كى تجتمع قوة العقيدة إلى قوة الترابط، وبذلك كانت جماعتهم هى الجماعة التى لا بد أن تظهر كلمتها لا لشىء إلا لأنها تتبع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فرجالها من المخلصين الشرفاء الذين يؤمنون بالمشروع الإسلامى ويضحون من أجله بكل نفيس وغالٍ قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[سورة التوبة: 111].
ولذلك لا بد أن تظهر كلمتها؛ لأنها من نور الله بل لا بد أن تنتصر هذه الدعوة تحقيقا لوعد الله الذى لا يخلف وعده، ولهذا النصر سنن بينها القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النصر يحتاج إلى (إيمان عميق، وتكوين دقيق، وعمل متواصل، ووعى كامل).
وما أجمل ما قاله الإمام البنا مخاطبا الذين يستعجلون الثمرة قبل نضجها فيقول: "أيها الإخوان المسلمون وخاصة المتحمسين المتعجلين منكم اسمعوها منى كلمة عالية مدوية من فوق هذا المنبر فى مؤتمركم هذا الجامع.. إن طريقكم هذه مرسومة خطواتها، موضوعة حدودها، ولست مخالفا هذه الحدود التى اقتنعت بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها".
وكما قال أيضا: (إنما تنجح الفكرة إذا قوى الإيمان بها وتوفر الإخلاص فى سبيلها وازدادت الحماسة لها ووجد الاستعداد الذى يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة الإيمان والإخلاص والحماسة والعمل من خصائص الشباب؛ لأن أساس الإيمان القلب الذكى وأساس الإخلاص الفؤاد النقى وأساس الحماسة الشعور القوى وأساس العمل العزم الفتىّ، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب، ومن هنا كان الشباب قديما وحديثا فى كل أمة عماد نهضتها وفى كل نهضة سر قوتها وفى كل فكرة حامل رايتها قال تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [سورة الكهف].
إن لهذه الدعوة لا يصلح لها إلا من أحاط بها من كل جوانبها ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته، ولا ينشأ عنده الجد والكد والجهد إلا إذا أخذت الدعوة عليه لبه والتحمت مع روحه وقلبه وكان متحمسا لتحقيقها فى واقع الأمر، فالإيمان العميق بالدعوة أول أصول نجاحها.
نحن نريد نفوسا حية قوية، وقلوبا جديدة خفاقة، ومشاعر غيورة ملتهبة، وأرواحا متطلعة متوثبة، إن الإسلام يريد فى الفرد وجدانا شاعرا يتذوق الجمال والقبح، وإدراكا صحيحا يتصور الصواب والخطأ، وإرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق، وجسما سليما يقوم بأعباء الواجبات الإسلامية حق القيام، ويصبح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة وينصر الحق والخير.
إن ضخامة المهمة وكثرة العقبات وتربص الأعداء لا تعنى التخلى عن العمل للإسلام وعن ضرورة تغيير الواقع الباطل وإقامة دولة الحق، ولكن بالطريق الصحيح. إن إرساء أصول العقيدة فى النفوس وتربية وإعداد الجيل المؤمن الصادق الذى سيقوم بالتغيير، وإقامة البيوت المسلمة المتمثلة للإسلام فى جوانب حياتها، والعمل لقيام الحكم الإسلامى -هى الطريق الصحيح للتمكين لدعوة الله فى الأرض -دون تعجيل للنتائج، فالزمن يقاس بعمر الدعوة لا بعمر الأفراد.
إن الصورة المثلى والصحيحة تتمثل فى الصبر على الإيذاء والثبات مع الحق والإصرار على تبليغ الدعوة، وقد يؤدى ذلك إلى الاستشهاد كما حدث لـ"ياسر" و"سمية" رضى الله عنهما، هذه العناصر الثلاثة (الصبر والثبات وتبليغ الدعوة) كانت سر حياة الدعوة وسببا فى بقائها وامتدادها. إن ياسر وسمية وبلال وغيرهم قد أدوا دورا مهما ورئيسا للدعوة فى ذلك الوقت، وما زلنا نستمد من مواقفهم الزاد والقوة الدافعة كلما قرأنا سيرتهم. وظاهر الأمر قد يجعل البعض يظن خطأ أنها مواقف سلبية ولكنها فى الحقيقة قمة الإيجابية. ففى الصبر على الإيذاء والثبات مع الحق ومواصلة تبليغ الدعوة وإعطاء وبذل ومعاناة ومجالدة أهل الباطل تنتهى بانهزامهم أمام قوة الإيمان والاستمساك بالعقيدة. وهذا ما استشعره أبو جهل أمام ثبات بلال رضى الله عنه.
والإيذاء ألوان وأصناف إذ يتعرض الداعى إلى الله إلى الإيذاء فى دينه وماله وأهله وعرضه، ومن حيث المصدر إما أن يكون الإيذاء فى دعوتهم إلى الله بصورة فردية أو من أعداء الله وأهل الباطل من مراكز ضعفهم، ولا أقول من مراكز قوتهم لأنهم حين لا تسعفهم الحجة التى يجابهون بها دعوة الحق يلجئون إلى أسلوب الضعف.. أسلوب البطش والتنكيل بدعاة الحق ظنا منهم أن التقتيل والتعذيب والإيذاء ستخفت صوت الحق أو تطفئ نور الله.. ولكن خاب ظنهم قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُّطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة التوبة].
تلك سنة الله فى الدعوات قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [سورة البقرة: 214].
فإذا لم يحتمل الداعية هذا الإيذاء ولم يصبر عليه ويحتسبه عند الله، ورضى بالقعود وعدم مواصلة السير على طريق الدعوة، فإنه يكون بذلك قد أخفق فى تخطى هذه العقبة وحرم نفسه شرف الانتساب إلى قافلة المجاهدين، ويستبدل الله به غيره، قال تعالى:{وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[سورة محمد: 38].
والحقيقة أن الله غنى عنا وعن جهادنا قال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[سورة العنكبوت: 6].
لهذا وجب على الداعى إلى الله أن يوطد العزم من أول الطريق على تحمل الأذى مستمدا العون من الله مؤثرا ما عند الله، موقنا بأن كل بلاء دون النار عافية فلا ينهزم أمام الباطل ولنا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة فى احتمال الأذى والصبر عليه والثبات على الحق، ولنعلم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا وأن هذا الإيذاء من بشائر النصر.. قال تعالى:{وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [سورة الأنعام: 34].
يستطيع الداعية المسلم أن يتخطى العقبات السابقة من إعراض وسخرية وإيذاء ويجابه أعداء الله فى ثبات وصبر، مستجمعا كل طاقته فى يقظة وانتباه شديدين ليواجه تحديات الباطل وينجح فى ذلك ولا تلين له قناة رغم شظف العيش وسوء الأحوال وكثرة الضغوط.
ومع جواز رد العدوان بمثله وهو حق شرعى قال تعالى:{لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}[سورة النساء: 148].
وليس هناك دليل أكبر من هذا الموقف الذى حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فلقد وكز أحد الصحابة، وقال له استو، فقال الصحابى: "لقد أوجعتنى يا رسول الله ولا بد أن أستقيد منك، فتعجب الصحابة من أخيهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف عن بطنه الشريف وقال للصحابى: "ها أنا ذا استقد منى" فأسرع الصحابى إلى بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، وهو يقول: "والله ما أردت إلا أن يمس جسدى جسدك".. ومع هذا الحق فإن الصبر أفضل قال تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور} [سورة الشورى].
فالذين يؤذوننا بالألفاظ النابية والكلمات السوقية يجوز لنا الرد عليهم، ولكننا نتجاوز عن هذا لأننا أصحاب خلق ودين وليس أشد من هذا الموقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بعمه حمزة فقال غاضبا: لئن لقيت القوم لأمثِّلن بهم سبعين مثله.. فنزل قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}[سورة النحل: 126 – 128].
واعقد مقارنة بين ألفاظنا وكلماتنا فى المؤتمرات والتجمعات وألفاظ القوم التى نستحى من ذكرها.
للإسلام ثوابت عديدة فى كل مجال من مجالاته وهى ملزمة لكل مسلم ومسلمة، ولأن جماعة الإخوان المسلمين جماعة من جماعات المسلمين فهى تتقيد بثوابت الإسلام كلها وتلتزم التزام السلف وأهل السنة والجماعة بها.
والإخوان المسلمون لا يحتكرون الإسلام لأنفسهم ولا يتصورون أن يكون كل المسلمين منخرطين فى جماعتهم؛ لأنهم ليسوا جماعة المسلمين بل هم جماعة من جماعتهم، وعلى هذا فإن الذى لا ينضم إليهم أو الذى يخرج عليهم لا يفتقد إسلامه بعدم الانضمام ما دام يلتزم بثوابت الإسلام لا يغير فيها ولا يبدل ولا يخرج عنها.
والالتزام بثوابت الإسلام يحفظ المجتمع من الهزات، وهذا ما حدث عبر التاريخ الإسلامى، فلقد تجاوز المسلمون الخلافات السياسية والفكرية والمذهبية بينهم بهذه الثوابت.. ولم تؤثر تلك الخلافات فى أسس الإسلام وخصائصه ومقوماته، واستعلى المسلمون مواجهين الحضارات الطاغية فى البلدان المفتوحة اليونانية والفارسية والهندية وواجهوا الهجمات الصليبية الشرسة والاجتياح المغولى والغزو الاستعمارى المعاصر مقتدين برسولهم صلى الله عليه وسلم حين قال له ربه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سورة الزخرف: 43].
فالتمسك بالثوابت يعطى المسلمين القوة الدافعة فى مواجهة أخطر غزو لهم وأكبر تحد أمامهم وهو التلوث الفكرى العالمى من الصهيونية الغاشمة والصليبية الحاقدة والعلمانية المارقة فهل بغير التمسك بالثوابت نستطيع أن نواجه هذه الهجمة الشرسة؟؟.. ولهذا كانت هذه الثوابت حاكمة ومميزة للسلوك والاعتقاد والتى يعرف بها أتباع هذا الدين من غيرهم.
بقلم : جمعة أمين عبدالعزيز؛ نائب المرشد العام للإخوان المسلمين
الآراء