كشفت الاحتجاجات على الفيلم المسيء إلى الإسلام، في العديد من البلدان المسلمة، وما تخللها من اعتداءات على سفارات الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مدى حساسية العلاقة وهشاشتها بين العالمين الغربي والإسلامي. وإذا كانت الاحتجاجات تركزت على الولايات المتحدة فلأن الفيلم أنتج فيها، ونفذه أمريكي من أصل مصري، مسيحي الديانة. من الواضح أنه هاجر بلده الأصلي نهائياً نقمةً على الأوضاع المتدهورة للأقباط وتكرار الاعتداءات عليهم منذ أعوام. وينمّ فيلمه عن حقد وكراهية بمقدار ما يشير إلى ثقافة سطحية، متعصبة وتافهة في آنٍ. وعلى الرغم من أن ظهور الفيلم الأول على "يوتيوب" سبق ردود الفعل عليه بأسابيع فقد استقرّ في الأذهان أنه أُطلق بالتزامن مع الذكرى الحادية عشرة لهجمات 11 سبتمبر 2001. فبعد ساعات من إعلان الرئيس باراك أوباما أن الإرهاب يتراجع، وكذلك تنظيم "القاعدة"، كان مبنى القنصلية الأميركية في بنغازي يحترق وينهب قبل أن يتبيّن أن الأمر أكثر مأسوية إذ قتل في الحريق السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين.
كانت صدمة، بلا شك، خصوصاً أن التهديدات الأهمّ للأمريكيين والغربيين حصلت في بلدان "الربيع العربي" الأربعة، مصر وليبيا وتونس واليمن، التي يعتبر الغرب أنه وقف فيها إلى جانب شعوبها وساهم علناً أو من وراء الستار في إنجاح ثوراتها. وحتى في البلدان الأخرى، كانت الاحتجاجات الأعنف في باكستان وأفغانستان حيث أمضى الأمريكيون عقداً كاملاً بالغ الكلفة بشرياً ومادياً. وما عمّق الصدمة أن إدارة أوباما كانت تعتقد أن الجهود التي بذلها الرئيس طوال الأعوام الأربعة الماضية لتغيير صورة أمريكا في العالمين العربي والإسلامي نجحت كلياً أو جزئياً بحسب البلدان. ولم يكن هذا التقييم خاطئاً في بداية ولايته إلا أنه تآكل مع الوقت.
كان كافياً أن يخطط شخص أرعن اسمه نيكولا باسيلي نيكولا لإساءة بذيئة ومتعمدة إلى نبيّ المسلمين كي تعود العقول والقلوب إلى ما كانت عليه غداة الهجمات الإرهابية عام 2001. وللأسف يغيب عن الأذهان أن تلك الهجمات كانت من أسوأ الإساءات إلى الإسلام والمسلمين بمقدار ما كانت مسيئة وقاتلة بالنسبة إلى أمريكا والغرب. وفي كل الأحوال لم يكن الإسلام سوى عنوان وذريعة استُخدما من هذا الطرف وذاك لتبرير الأفعال وردود الأفعال. لكن العلاقة المتوترة بين الغرب والإسلام لم تكن يوماً بسبب الإسلام تحديداً، وهي لم تنقلب سيئة بعد تلك الهجمات، ولم تتفاقم فقط بسبب ما سمي "الحرب على الإرهاب" التي سوّغت احتلال بلد مسلم ثم بلد عربي مهم كالعراق، وإنما هناك تاريخ من المآخذ العربية والإسلامية المتراكمة على السياسات التي تتبعها أمريكا والغرب. وقد يكون التناقض الديني أحد دوافع الفتور والتنافر، إلا أنه ليس أبرزها ولا سببها المباشر، لكن العرب والمسلمين يستشعرون كلما مارس الغرب ضدهم ظلماً أو اعتداءً أو انحيازاً وكأن "ثقافة الحروب الصليبية" لا تزال هي المتحكمة بالعلاقة بين الطرفين.
لا شك في أن الموضوع شائك ومعقّد، وقبل الحديث عن السياسات الراهنة التي تشحذ التوتر لا بدّ من ملاحظات عامة تتناول الشأن الديني طالما أنه دُفع إلى الواجهة أخيراً:
أولاً، يبدو أن أنشطة الحوار بين الأديان تحتاج إلى مراجعة، فمن الواضح أنها بالغة النخبوية ولا يصل سوى القليل من توافقاتها الطيّبة إلى العموم، فضلاً عن أنها لا تنعكس على تطبيقات التثقيف الديني هنا وهناك. وإذا بدا للإسلام الوسطي المعتدل الذي تعبّر عنه الحكومات أن التقارب ممكن مع الفاتيكان، كمرجعية للمسيحيين، إلا أنها ليست المرجعية الوحيدة، ثم إنها لا تستطيع إلزام الحكومات الغربية بأي شيء، فضلاً عن أن بؤر التعصب المسيحي لا تتبع لها، تماماً كما أن بؤر التطرف الإسلامي لا تتبع لمرجعية واحدة معروفة.
ثانياً؛ ثمة موروثات تاريخية من فترة الحملات الصليبية ثم حقبة الاستعمار بالنسبة إلى المسلمين، ومن فترة الفتوحات الإسلامية (القسطنطينية، بواتييه، الأندلس...)، ساهمت في وضع قواعد للعداء والتباغض لا تزال مناهج التعليم تجددها وترسّخها لدى الجانبين. وفي التاريخ الحديث تزامن انتصار التفوّق الغربي وتصفية الاستعمار بصيغته القديمة مع إنشاء دولة إسرائيل كتعبير عن ذلك التفوّق وتحوّل الاستعمار إلى صيغته المحدثة وغير المباشرة، مع ما تعنيه سيطرة إسرائيل على القدس في نظر المسلمين وكأنها تحقيق للهدف الذي حدّده الصليبيون لحملاتهم وتتويج لما يمثّله مصطلح "الحضارة المسيحية - اليهودية".
ثالثاً؛ في أيامنا هذه قفز الإسلام إلى واجهة اهتمامات المجتمعات الغربية لأسباب تتعلّق بتنامي عدد المسلمين في العديد من البلدان، سواء في ما بات يُعرف بـ "مشكلة الهجرة" أو في المسائل المستجدّة كـ "الإرهاب" ومفاهيمه. وفي الأساس تعزى قضية الهجرة إلى سوء إدارة الحكومات لبلدانهم التي أصبحت مع الوقت طاردة لمواطنيها الهاربين من القمع والاضطهاد أو الباحثين عن عمل ومستقبل أفضل لأولادهم. وبرغم أن الإسلام كديانة لا علاقة له بهذه المشكلة، فإنه ترسّخ مع الوقت انطباع يفيد بأن ما يجمع بين الدول التي تخفق في احترام الحرّيات وحقوق الإنسان وفي إقامة اقتصادات منتظمة هو كونها "إسلامية". ولعل ما زاد التركيز على الإسلام أن المسلمين المهاجرين يسعون حيث تتكاثر أعدادهم إلى فرض مظاهر إسلامهم وإلى تسييسه وربطه بمجموعات دينية متطرفة في بلدانهم. فإلى جانب الجدل حول الحجاب واللباس وطقوس الصلاة في الشوارع، أضيف الارتياب الأمني بأبناء الجاليات وعلاقة بعض منهم بشبكات إرهابية أيضاً.
هاتان الخلفيّتان، التاريخية والراهنة، تتضافران، أقلّ أو أكثر، في صنع التوتر في العلاقة بين الغرب والإسلام، ولم يكن هناك عمل كثير لمعالجته. فالاحتجاجات الأخيرة أبرزت تعارضاً عميقاً حول مسألة "حرية التعبير" التي لا يبدي الغرب أي استعداد للمسّ بها كونها مكرّسة في دساتير دوله، وتشكل أحد أهم مقوّمات الاستقرار في مجتمعاته. وهذا يعكس مفهوماً للمقدّسات والمحرمات مناقضاً تماماً للمفاهيم التي تدين بها المجتمعات المسلمة. وقد قيل في معرض الجدل إن الحكومات الغربية نفسها لم تكن وراء الإساءة للإسلام وإن خطابها الرسمي لا ينفكّ ينزّه الإسلام عن الإرهاب. وعلى الرغم من أن أفراداً مثل رسام الكاريكاتور الدنماركي أو منتج فيلم "براءة الإسلام" أو صحيفة مثل "شارلي إيبدو" الفرنسية هم الذين يقدمون على الإساءة، بل يمكن أن يسيئوا أيضاً إلى أديان أخرى، فإن استهدافهم للإسلام في الأعوام الأخيرة شكل صدىً لتفاعلات ثقافية وردّ فعل على أحداث سياسية جارية، فالإسلام موجود في الأخبار أكثر مما يجب، والمسلمون هم الذين يساهمون في وضعه تحت الأضواء. لكن الحكومات لا تستطيع التبرؤ كلياً من المسؤولية، فبعض المحققين الأميركيين لجؤوا في الاستجوابات إلى تحقير القرآن للضغط نفسياً على المعتقلين، وفي ذلك ما فيه من شبهة تعرّض "حكومي" للإسلام. ثم إن واقعة حرق القرآن بدعوة من القس تيري جونز، عام 2010، صوّرها صاحبها على أنها ردّ فعل على العنف، إلا أنها نمّت عن وجود ثقافة كراهية في بعض مجتمعات الغرب لا تقل خطورة عن تلك الموجودة في خطاب المتطرفين المتأسلمين.
من المؤكد أن معالجة هذا التوتر ممكنة إذا توافرت الإرادة، فمن جهة أصبح واجباً ملحاً على المسلمين أن يقلعوا عن هذا التداول لإسلامهم؛ لأنهم بذلك يعرّضونه لاستهانات الحياة الدنيا. وفي المقابل لا بدّ أن تبدأ المعالجة على المستوى السياسي، ففي الأساس ليست للغرب مصلحة في إدامة نزاعات وعدم حلّ إجحافات تاريخية يعتبره العرب والمسلمون مسؤولاً عنها، ولأنها طالت زمنياً فقد ترسّخ في أذهانهم أن الغرب يرمي إلى إذلالهم. ولعل المثال الأبرز هنا أن هناك اعتقاداً على نطاق واسع بأن حلاً سلمياً عادلاً لقضية الشعب الفلسطيني من شأنه أن يبدد جانباً من العداء، وعلى الرغم من أن أشواطاً قطعت في هذا السبيل فإن الغرب نكص بوعوده وزاد الإحباط وخيبة الأمل.
الآراء