د. علي الصلابي مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي لن تسعنا المجلدات ولا الكتب للحديث عن فضل القرآن الكريم وعظمة نزوله على الناس وأثره في نفوسهم، والقرآن الكريم لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه؛ هو الكتاب الحق الذي جعله الله سبحانه وتعالى معجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وإن أول كلمة أنزلت فيه "اقرأ"؛ وهي أول كلمة أنزلت عن طريق جبريل عليه السلام في غار حراء، فأصبح الكلام معجزاً، ولو أنزل الله عز وجل هذا القرآن على غير البشر، أيّ لو أنزله على الجبل لخشع الجبل من خشية الله عز وجل، والقرآن الكريم كلام الله تَكلم به بالحقيقة على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، ولم يُنزل الله من السماء أعظم ولا أجل من القرآن، وقد أخبر الله تعالى أن القرآن كما هو مُعَظَّمٌ بالأرض فهو مُعَظَّمٌ في السماء لا يمسه إلا المطهرون، ولا يحتفي به إلا الملائكة الأطهار الأبرار. كان خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: "لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله"؛ أيّ لو كانت القلوب طاهرة لظل الإنسان صباحه ومساءه يقرأ القرآن ويتدبره، فهو يشفي ما في صدره؛ فالقرآن العظيم شفاء لما في الصدور وآياته موعظة إلهية ربانية، فمن قرأ آيات القرآن زاده الله عز وجل إيماناً على أيمانه، قال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذلك هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ".(سورة الزمر، الآية: 23). أولاً: تعريف القرآن الكريم القرآن لغة: مصدر من الفعل قرأ، بمعنى الجمع، يُقال: قرأ قُرآناً، قال الله عزَّ وجلّ: (إنَّ علينا جَمعهُ وقُرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه). أمّا القرآن الكريم في الاصطلاح فهو: (كلام الله المنزَل على مُحمد عليه الصّلاة والسّلام، المُتعبَّد بتلاوته، المَنقول بالتّواتر، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة النّاس). ثانياً: عظمة القرآن الكريم تحدث المولى عز وجل عن عظمة القرآن الكريم ومن خلال آياته الحكيمة تبين هذه العظمة في ثناء الله على كتابه العزيز في آيات كثيرة مما يدل على عظمته فقد وصفه «بالعظيم» في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ*} [الحجر: 87]. ووصفه في أم الكتاب بأنه «عليٌّ حكيم» في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ*} [الزخرف: 4]. فهذه شهادةٌ من الله تعالى بعلوِّ شأن القران وحكمته، ولا ريبَ أنَّ من عظمة القران أنه «عليٌّ» في محلّه، وشرفه، وقدره، فهو عالٍ على جميع كتب الله تعالى، بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر. ومن ثناء الله تعالى على القران أن وصفه بأنه «كتاب مبارك»، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92]. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [الأنعام: 155]. وبركة هذا الكتاب تمتدّ إلى يوم القيامة، وعطاؤه نامٍ لا ينفد.. يواكِبُ الحياة بهذا العطاء، ثم يأتي شفيعاً لأصحابه. وتتجلّى عظمةُ القرانِ العظيمِ في عظمة مُنزِّله جلّ جلاله، ويتّضحُ ذلك جلياً في قوله: {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ*} [الأحقاف: 1 ـ 2]. ثالثاً: فضلُ جبريل الذي نزل بالقرآن نوّه الله تعالى بشأن من نزل بالقرآن على رسولنا محمد (ص)، وهو جبريلُ عليه السلام، أمينُ الوحي الإلهي، وذكر فضله في عدة آيات، منها: قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *} [الشعراء: 192 ـ 194]. وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بخمس صفات في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *} [التكوير: 19 ـ 21]. وهذه الصفاتُ الخمسُ تتضمّن تزكيةَ سندِ القرانِ العظيم، وأنّه سماعُ نبينا محمد من جبريل عليه السلام، وسماع جبريل الأمين من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علواً وجلالة. رابعاً: القرآن تنزيل رب العالمين قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ*} [الشعراء: 192 ـ 193]. وفيه ضميرُ العظمةِ، وإسنادُ الإنزال إليه تشريفٌ عظيم للقرآن، من عظمة القران أنّه نزل من الله تعالى وحده لا من غيره، لنفع الناس وهدايتهم، فاجتمعت في القران العظيم فضائل، منها: - أنه أفضل الكتب السماوية. - نزل به أفضل الرسل وأقواهم، جبريل الأمين على وحي الله تعالى. - نزل على أفضل الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم). - نزل لأفضل أمة أخرجت للناس. - نزل بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو اللسان العربي المبين. خامساً: القرآن مستقيم ليس فيه عوج قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا *قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَناً *} [الكهف: 1 ـ 2]. ونفي العوج عن القرآن له عدة أوجه، منها: الأول: نفي التناقض عن آياته، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. الثاني: إن كل ما ذكر الله تعالى في القران من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف، وهو حق وصدق، ولا خلل في شيء منه البتة. وأخبر تعالى كذلك عن القران أنّه ليس فيه تضاد، ولا اختلاف، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، فقال تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]، أي: ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، لا في ألفاظه، ولا في معانيه، وهذا يستلزمُ كمال اعتداله واستقامته، فقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأوصاف عظيمة تدلُّ على أنه كامل من جميع الوجوه، وعظيم بكل ما تعبر عنه الكلمات، منها: - نفيُ العوج عنه: وهذا يقتضي أنّه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلمٌ ولا عبثٌ. - إثبات أنه مستقيم مقيم: فالقرآن العظيم مستقيم في ذاته، مقيم للنفوس على جادّة الصوّاب، وإثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يُخبرُ ولا يأمر إلا بأجلّ الأخبار، وهي الأخبار التي تملأ القلوبَ معرفةً، وإيماناً، وعقلاً، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله. سادساً: خشوع الجبال وتصدُّعها قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} الحشر: 21] أي: لاتّعظ الجبلُ، وتصدّعَ صخرُه، من شدّة تأثره من خشية الله، ففي هذا: بيانُ حقيقة تأثير القران وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشمَّ، وحجراً أصم، وضُرب التصدّعُ مثلاً لشدة الانفعال والتأثر؛ لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدّع، ولا يحصل ذلك بسهولة. والخشوعُ: هو الرّكوع، أي: لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض. والتصدّع: التشقق، أي: لتزلزل وتشقق من خوف الله تعالى. ولا شك أنَّ هذا تعظيمٌ لشأن القران، وتمثيلٌ لعلوّ قدره، وشدّة تأثيره في النفوس، لما فيه من بالغِ المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحقّ، والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبلُ في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن، فكيف يليقُ بكم أيُّها البشر ألاّ تلينَ قلوبكم وتخشعَ وتتصدّعَ من خشية الله. [(9)] سابعاً: انقياد الجمادات لعظمة القرآن قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]. والمعنى: ولو أنَّ قراناً سُيرت به الجبال عن مقارّها، وزُعزعت عن مضاجعها، أو قُطّعت به الأرض حتى تتصدّع وتتزايل قِطَعاً، أو كُلم به الموتى، فتسمع وتجيب، لكان هذا القران، لكونه غاية في التذكير، ونهاية في التخويف، والمقصود: بيانُ عظم شأن القران العظيم، وفساد رأي الكفرة، حيث لم يقدّروا قدره العلي، ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره، مما أُوتي موسى وعيسى عليهما السلام. أي: بإنزاله أو بتلاوته {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ}، وزعزعت عن مقارها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام أي: شققت وجُعِلت أنهاراً {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ}، كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه. ثامناً: تحدي الإنس والجن بالقرآن من مظاهر عظمة القران وعلوِّ شأنه، أنّ الله تعالى تحدّى الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثله، أو بعشرِ سورٍ من مثله أو بسورةٍ مثله، قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء 88]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [هود: 13 ـ 14]. ومع ذلك كله، ما ثابوا إلى رشدهم، وما وجدوا ما يتكلّمون به، فعادوا لما نهوا عنه، وقالوا: «اختلقه محمد عمداً»، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون، ووصل بهم إلى غايةِ التّبكيت والخذلان، وتحدّاهم أن يأتوا بسورةٍ مثلَ القران فعجزوا، ولما بُهِتَ الذين كفروا؛ ولم يستسلموا؛ صاروا كالذي يتخبّطه الشيطانُ من المسِّ، مرةً يقولون استهزاء: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *} [الأنفال: 31]، وأخرى يقولون عابثين: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]. [(14)] فهذا القران العظيمُ ليس ألفاظاً وعباراتٍ يحاول الإنس والجن أن يحاكوها، كلا وربّي، إنّه كلام الله تعالى، الذي تحدّى به الخلق كلهم، فقال عزّ من قائل حكيم: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا*} [الإسراء: 88]. فهذا تنويهُ بشرفِ القران وعظمتِه، وهذه الاية ونحوها تُسمّى ايات التحدي، وهو تعجيزُ الخلق أن يأتوا بمثل هذا القران الكريم، أو سورة منه، فالقرآن الكريم هو أعظم الكتب السماوية، فيجب على المؤمن أن يقرآ القرآن حق تلاوة، وأن يراعي آداب قراءة القرآن الكريم، فهي عباده تقرب العبد من ربه، ويجب علينا ألا نهجر القرآن. لأنه يأتي شفيعا لعبده يوم القيامة وإن القرآن الكريم لا بديل له ولا تكشف الظلماتُ. إلاّ به والقرآن شفاء عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهذا القرآن العظيم هو دستور المسلمين وشريعتهم وصراطهم المستقيم، وهو حبل الله المتين وهدايتُه الدائمة، وموعظته إلى عباده، وآيةُ صدقِ رسوله – صلى الله عليه وسلم – الباقية إلى آخر الدنيا، وهو سبيل عزِّ المسلمين في كل العصور والدهور، ولَمَّا كان القرآن كذلك، تعبَّدنا الله تعالى بتلاوته، وجعل خيرنا مَن تعلَّمه وعلمه؛ كما في صحيح البخاري وغيره. مراجع: 1. تفسير السعدي، 3/ 485. 2. تفسير الكبير للرازي، 21/ 64. 3. الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، 30/ 402. 4. علي محمد الصلابي، الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، دار ابن كثير، بيروت، 2011، ص. ص 14 – 22. 5. الكشاف للزمخشري، 2/ 498.
الآراء