"تضخم الهوية قطيعة وضمورها ذوبان"
ما أرسل الله من رسول إلا بلسان قومه، وغالب الأنبياء يبعثون في أممهم (أَخَاهُمْ) فذلك أدعى لمعرفتهم وتأثيرهم، فالقطيعة الثقافية والاجتماعية ليست مما يشجع على القبول.
ومع الوضوح الصارم في مسألة الإيمان والتوحيد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة من حوله فيما لم ينزل عليه فيه وحي.
ولم يُغيِّر من العادات المكيَّة في البناء والطعام والعلاقات الاجتماعية والمؤسسات الحياتية إلا ما كان محتاجاً إلى تعديل، وجاء ذلك متأخراً بعد التمكين والفتح.
حرَّم الإسلام القِمَار "الْمَيْسِرِ"، وشرب الخمر والاجتماع عليها، ووأد البنات، وقتل الأولاد، وتبرج الجاهلية، واتخاذ الأخدان، والعصبية القبلية، وشن الغارات والحروب لغير سبب؛ باعتبارها عادات فاسدة تنتمي إلى قيم جاهلية محرَّمة.
وأقرَّ احترام الأشهر الحرم، وتحريم نكاح الأمهات والبنات، والاغتسال من الجنابة، وتقليم الأظفار، والختان.
وفي المدينة كان -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك مع عادات الأنصار الاجتماعية والأسرية، ومن ذلك التشجيع على الغناء الجائز في الفرح، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ » (رواه البخاري).
ومنه تشجيع نسائهم ومدحهن بأنه لم يمنعهن الحياء من السؤال، كما قالت عائشة رضي الله عنها، فضلاً عن العادات الغذائية المتعلقة بالطعام.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ذَهَبْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ الأَنْصَارِىِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ وُلِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى عَبَاءَةٍ يَهْنَأُ بَعِيرًا لَهُ فَقَالَ « هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ ». فَقُلْتُ نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ تَمَرَاتٍ فَأَلْقَاهُنَّ فِى فِيهِ فَلاَكَهُنَّ ثُمَّ فَغَرَ فَا الصَّبِىِّ فَمَجَّهُ فِى فِيهِ فَجَعَلَ الصَّبِىُّ يَتَلَمَّظُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حُبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرَ ». وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. (رواه مسلم)
وقَالَتْ أَسْمَاء بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ: تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِى الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَىْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ - قَالَتْ - فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ وَأَسْتَقِى الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ لِى جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ.
وكانت نساء الأنصار يساعدن أزواجهن في عمل الحائط.
وكن يشكون إلى رسول الله إكراههن على الزواج "خنساء بنت خدام"، أو حرمانهن من الميراث "بنات سعد بن الربيع"، أو تسرُّع أزواجهن في ألفاظ الظهار "خولة بنت ثعلبة"، أو كرههن لأزواجهن وطلب الخلع "زوجات ثابت بن قيس".
وقد سأله أنس: أَلاَ تَتَزَوَّجُ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ قَالَ: « إِنَّ فِيهِمْ لَغَيْرَةً شَدِيدَةً » رواه النسائي.
وفيهن من حضر البيعة الكبرى كـ "نسيبة بنت كعب"، وقالت أم عطية: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِى رِحَالِهِمْ فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ وَأُدَاوِى الْجَرْحَى وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى. (رواه مسلم)
وأُسرت امرأة من الأنصار فاستطاعت الإفلات على ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "العضباء".
وكانت نساء الأنصار تعرف بحسن التَّبَعُّلِ للزوج؛ كما في قصة أبي خيثمة حين تأخَّر عن غزوة تبوك، وقصة أم سليم وتزيُّنها لزوجها أبي طلحة حين توفي غلامهما.
يقول عمر: (كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ) رواه البخاري ومسلم.
وكانت عادات المعاشرة الزوجية تختلف بين المهاجرين والأنصار؛ كما في تفسير قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}(223) سورة البقرة، قال ابن عباس : كَانَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلاَتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ وَقَالَتْ إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَاجْتَنِبْنِى حَتَّى شَرِىَ أَمْرُهُمَا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) رواه أبو داود.
وكان لنساء الأنصار ألبسة خاصة، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أَخَذَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ أُزُرَهُنَّ فَشَقَقْنَهُ مِنْ نَحْوِ الْحَوَاشِى فَاخْتَمَرْنَ بِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى نُعَيْمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ).
وكانت تحية الجاهلية "عِمْ صبَاحاً"، و"مرحباً بكم"، و"أبَيْتَ اللَّعْنَ" للملوك، فأبدلها الله بتحية الإسلام.
وفي المدينة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُفضِّل موافقة أهل الكتاب على المشركين فيما لا نص فيه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَسَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ. (رواه البخاري ومسلم).
والفرق: هو قسمة الشعر في المفرق وهو وسط الرأس، بمعنى انقسام الشعر من المفرق إلى جهة اليمين وإلى جهة الشمال.
وفي رواية: (وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي أَمْرٍ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْكِتَابِ)، وكونه (فَرَقَ بَعْدُ)؛ لأن الفرق لم يعد خاصية لأهل الشرك حيث أسلم عامتهم، مع أن الأمر من القضايا الجزئية المترددة بين الإباحة والكراهة.
ويشبه ذلك صبغ الشعر وتركه، وصوم عاشوراء، واستقبال القبلة، ومخالفة اليهود في تجنب الحائض.
قال القرطبي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله لأجل استئلافهم، فلما لم ينجع فيهم أحب مخالفتهم، فكانت مستحبة لا واجبة عليه.
وما في قول ابن عباس لا يعني النسخ لإمكان الجمع، بل يحتمل ألا تكون الموافقة والمخالفة حكماً شرعياً إلا من جهة المصلحة، ذكره القرطبي.
قال ابن حجر: وَقَدْ جَمَعْت الْمَسَائِل الَّتِي وَرَدَتْ الْأَحَادِيث فِيهَا بِمُخَالَفَةِ أَهْل الْكِتَاب فَزَادَتْ عَلَى الثَّلَاثِينَ حُكْمًا ، وَقَدْ أَوْدَعْتهَا كِتَابِي الَّذِي سَمَّيْته " الْقَوْل الثَّبْت فِي الصَّوْم يَوْم السَّبْت". (فتح الباري/ كتاب اللباس/ باب الفرق/حديث 5573).
وكأن الإمام ابن عقيل أخذ من هذا الحديث وأشباهه قوله في الفنون: (لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ إلَّا فِي الْحَرَامِ) (ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/47).
وردت نصوص توحي بضرورة الحفاظ على تميز المسلمين واستقلالهم عن الأمم الأخرى في معتقداتهم وشعائرهم وشعاراتهم الظاهرة، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: « لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِى جُحْرِ ضَبٍّ لاَتَّبَعْتُمُوهُمْ » متفق عليه.
ومع كونه أخبر بحدوث حالة الاتباع لهم حتى في دخول جحرِ ضبٍ خربٍ لا معنى لدخوله ولا مصلحة من ورائه، وعبَّر بما يدل على أن هذه حالة ظاهرة وليست استثنائية أو قليلة إلا أن السياق سياق تحذير وتنبيه.
وفيه حكمة نبوية بالجمع بين الإخبار بحصول الخلل فلا يبتئس منه المؤمنون مع الدعوة إلى عدم الاستسلام له أو تسويغه.
وجاء التعليل بتعمُّد مخالفتهم في مفردات كثيرة جداً في الشريعة؛ كاستعمال الأذان للصلاة بدل الناقوس، والنهي عن هيئات في الصلاة تشبه فعل اليهود كـ«التَّخَصُّرِ» (متفق عليه عن أبي هريرة)، والنهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر؛ لتجنُّب مشابهتهم، ومثله النهي عن الوصال في الصوم لأنه فعل النصارى..
الآراء