لا شک أن رسول الله صلی الله علیه وسلم کان علی قمة الأخلاق وأن أفعاله وتصرفاته کانت تستند إلی تعالیم القرآن الکریم؛ إنه کان رحمة للبشریة ولیس عذابا ونقمة وبناء علی ما قال القرآن الکریم إن ملخص رسالته کانت رحمة ومحبة للبشر وللعالم: "وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین". وکان یعیش بین الناس کأحد منهم یشارکهم في معاناتهم ویعز علیه ما یصیبهم یحاول من أجل إسعاد الناس بین عشیة وضحاها وکان یهتم ویغلق لهدایة الناس حتی وصله الأمر إلی حد التهلکة. إنه کان یحب السلام والحیاة السلمیة رافضا الحرب والتشدد رفضا شدیدا وکان یکره من الأسماء "الحرب والمرة". وما لجأ إلی الحرب إلا في ظروف استثنائیة وغالبا ما لإزالة الظلم والتعدي وقال الله تعالي في هذه المناسبة: "کتب علیکم القتال وهو کره لکم".

إنه حامل رسالة کانت ترفض صریحة کل أشکال الإکراه واللجوء إلی القوة لتبلیغ الدین: "لا إکراه في الدین" یمیل إلی التفاعل والتعایش بناء علی الاحترام والعدل والإحسان حتی بالنسبة لغیر المسلمین والکفار الذین لم یقاتلو المسلمین ولم یخرجوهم من دیارهم: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].

مع ما ذکرنا بالإضافة إلی دلائل أخری في هذا المجال علی الأسف نری أن معظم أجزاء کتب السیرة خاصة الفترة المدنیة اکتظت بالحروب والمعارک وکثیرا ما نری أن قائمة هذه الکتب ألفت علی أساس الغزوات: غزوة بدر وغزوة أحد وغزوة أحزاب وغزوة بني قریظة وغزوة بني مصطلق وحدبیة وغزوة مؤتة وفتح مکة وغزوة حنین وغزوة تبوک وعام الوفود وحجة الوداع ووفات النبي.

إن دارسي السیرة لا یقرؤون في هذه الأعوام العشرة من رسالة النبي إلا إشارات عابرة من حیاته الدعوية والتربوية من نصحه ومحبته ومن شخصیته تارة کالزوج وکالأب والصدیق والجار وتارة کالقاضي والقائد وهذا أبرز ما نری في حیاته الکریمة. إن الحرب والقتال اللذان یشملان زاویة صغیرة من حیاته قد شغلا مساحة کبیرة من هذه الکتب وکأنه رجل بید سیف یعمل لیل نهار لإعداد العتاد والجنود من أجل إثارة الحروب مع غیر المسلمین حیث أن عددا من الفقهاء رأوا أن قتال الکفار یجب واجبا کفائیا في کل عام مرة علی الأقل وزعموا أنه أمر مجمع علیه.

وهذه الرؤیة قد أدت إلی أن نری أن رسول الله صلی الله علیه وسلم بعد الهجرة تحول من الرسول الهادي والداعی إلی الرسول الغازي وملخص القول إن سیرة النبي وحیاته في الفترة المدنیة قد تحولت في کثیر من الأحیان إلی تاریخ المعارک. ومن الواضح أن هذه الرؤیة لیست صحیحة لأن ما نری أن الحروب في تلک الفترة کانت تتم بالسیوف والرماح ولم تکن طویلة وکانت تنتهي الحرب بعد کر وفر بانتصار طرف وإخفاق طرف آخر وکالنموذج أن غزوة أحد مع کل أحادثها وصعودها وهبوطها قد طالت یوما واحدا فقط. وغزوة الأحزاب التي تعد أطول الغزوات لم تطل إلا بضعة أسابیع فما کان یعمل رسول الله في سائر أیامه؟

وفي عدد من الغزوات کغزوة مؤتة نری أن أحدا من الصحابة تولی قیادة جیش الإسلام ولم یشارک فیها رسول الله حیث کان یهتم بشؤون الزعامة وحین إرسال السرایا کان یقوم نفسه بالمدینة. إننا نری من خلال دراسة أحداث سیرة النبي أنه کان یقوم بتربیة الأفراد والمجتمع وإضفاء الطابع الأخلاقي علیهم ودعوتهم إلی الخیر علی طول الطریق. ومع هذه الحقیقة التي لا یمکن إنکارها أن کتّاب السیرة قد أهملوا هذه الجوانب الهامة من حیاة رسول الله غیر واعین واختصوا جمیع السیرة في الفترة المدنیة بالغزوات والمعارک؛ والسؤال الذي یطرح هنا لماذا ارتکب هؤلاء الکتّاب هذا الخطأ؟

إن الجواب یکمن في أقدم کتب السیرة لابن إسحاق (85-151هـ) حیث قام ابن هشام بعده بجمعه وتهذیبه واشتهر بسیرة ابن هشام. وقد ألف ابن إسحاق في سیرة النبویة کتابین؛ أحدهما "المبدأ وقصص الأنبیاء" حیث یحدث فیه عن تاریخ النبیین ویشمل أیضا تاریخ النبي حتی نهایة الهجرة إلی المدینة والکتاب الثاني کتاب "المغازي" حیث یختص بغزوات النبي صلی الله علیه وسلم.

إن عمل ابن إسحاق واضح تماما لأنه کتب کتابین مع موضعین مستقلین حول السیرة وبدایة الخطأ کان من ابن هشام لأنه اختار من کتاب "المبدأ" الفصل الذي یتعلق بحیاة النبي حتی الهجرة وثم أضاف إلیه الکتاب الثاني لابن إسحاق أي "المغازي" وألف بجمع هذین الکتابین کتابا واحدا وسماه "السیرة النبویة" وصار کأساس لمؤلفي السیرة وهناک لا بد من ذکر ثلاثة قضایا حول سیرة ابن هشام:

الأولی: إنها تحتوي علی التفاصیل المضبوطة لحیاة النبي من مکة إلی الهجرة لأن ابن إسحاق کتبها مفصلا.

الثانیة: إن الغزوات تم تشریحها مع تفاصیل دقیقة بالخرائط والأحداث والنتائج لأن ابن إسحاق قد اهتم بهذا الجانب.

الثالثة: لیس هناک أي اهتمام بمواقف النبي الأخری في المدینة لأن ابن هشام ومؤلفي السیرة بعده قد تجاهلوا هذا الجانب واعتمدوا علی ما بیّنه ابن إسحاق خطأ في حین أن ما کتبه ابن إسحاق بعد الهجرة یختص بالغزوات ولم یتم تألیفه هذا الجزء في إطار الذي اعتبره المؤلف للدارسة.

وهذا الخطأ الذي ارتکبه ابن هشام أدت إلی أن یقوم مؤلفي السیرة بوضعه أساسا لهم حیث تم تجاهل جزء کبیر من حیاة النبي في المدینة وتحولت کتب السیرة في کثیر من الأحیان إلی قصص المعارک بدلا من السیرة الذاتیة للنبي صلی الله علیه وسلم. ونظرا إلی ما ذکر أنه من الضروري أن تتم إعادة تألیف کتب السیرة مع الأخذ بعین الاعتبار کافة جوانب حیاة رسول الله خاصة الفترة المدنیة وتسلیط الضوء علی شفقته ورأفته وهداه وتربیته إلی جانب إزالة الروایات والأخبار الکاذبة.

وهذا لا یعني تشویة سمعة التراث الإسلامي العظیم بل أن کافة آثار السلف الصالح هي نتیجة محاولات العقل البشري غیر متمتعة بالقداسة والعصمة؛ إن ما کتبه السلف هو حصاد الإدراک البشري وتصوراتهم من الإسلام ویمکن انتقاده ودراسته وهذا ما تعلمنا من السلف الصالح حیث قالوا إن کل مقولة یمکن قبولها ورفضها إلا ما نسبت إلی رسول الله صلی الله علیه وسلم وسیرة النبي لا یستثنی من هذه القاعدة. علاوة علی ما ذکرنا أن مؤلفي السیرة قد تسامحوا في کتابة السیرة ورووا کثیرا من الأحداث دون إسناد متصل وصحیح وهذا التسامح لا یوجد في الأحادیث المتعلقة بالأحکام وفي قضایا الحلال والحرام. وفي إعادة تألیف السیرة لا بد من أن تتم دراسة الروایات والأحداث بناء علی المعاییر والقواعد المتعلقة بعلم الحدیث ولکن لا یوجد بعدُ مبادرة جادة في هذا المجال.

قبل سنوات قرأت کتاب "طریق الحب؛ قصة التطور الروحي لماهتما کاندي" وقد قام الکاتب فیه بتبیین زهد کاندي وبساطة حیاته وشفقته ونصحه ورأفته بکافة البشر بدقة ومهارة حیث أن القارئ ینجذب لهذه الصفات في الوهلة الأولی وبعد دراسة الکتاب قلت في نفسي إن رأفة النبي وشفقته ونصحه للإنسانیة لا یمکن مقارنتها مع شخص ککاندي وتمنیت لو کتبَت سیرةُ النبي العطرة بقلم فصیح وبلیغ محتویة علی رسالته ونصحه ومحبته حتی یزیل الغبار عن وجهه الکریم ویعرضه کما هو.ونحن علی أمل أن یأتي یوم نقوم فیه بکتابة کل جزء من حیاته بعیدا عن الأخبار الکاذبة.