في هذه السلسلة ؛الرحلة إلی الذات نناقش علاقة الغرب بنا المسلمين . من المهم لفهم العصر الذي يعيش فيه المسلم اليوم أن نعرف الصور و الوجهات المتبادلة بيننا و بين الغرب .ما هي وجهة النظر الغربيين إلی المسلمين و ما هي الصورة المنطبعة في ذهن الغربيين عن المسلمين ؟ إن الاستجابة لتلك الأسئلة ذو أهمية كبيرة جدا؛ لأنّ تلك الصور و الوجهات هي التي تبيّن الآراء و تحدد المواقف و تغذي التوجهات الفكرية و النظرية و التجديدات السلوكية و العملية وتكوّن الواقع في الحياة لدی الطرفين ولا سيما الطرف المسلم اللبيب.
بصورة وجيزه، فإن صورة الإسلام في ذهن الغربيين فهي صورة غامضة مبهمة يكتنفها الكثير من الجهل و التشويش و القلق و العصبية، فعلی الرغم من المكايد الشنيعة في القرون الغابرة و الحروب الدامية المسيحية العصبية التي شنّها الغرب علی المسلمين وعلی الرغم من كل منهجية التفكير التجریبي و العلوم و المعارف الإسلامية والعقلانية التي نُقلت إليه علي أيدي العلماء والجامعات الإسلامية والمستشرقين والسيّاح والتجار من قبل ؛ إلا أنه لم يكن يحفل أبداً بمعرفة كنه الإسلام وجوهره و هدايته، بل أصبح معسكراً ضد معسكر الإسلام و إن حركة الاستشراق التی هو المبنی الرئيسي لنقل الإسلام إلی الغرب وكان المأمول من وراء دراساتها الهائلة التي تغذي الغربيين أن تتوفرلدي الغرب معرفة أفضل بالإسلام غير أن هذه الحركة أصيبت بالفشل و أن قلة قليلة من المستشرقين استطاعت النفوذ إلی أعماق الموضوعات التي عالجوها و إقامة دراسات أصلية وافية حولها، عبر منهجية منطقية مدركة لخفايا تلك الموضوعات؛ علی سبيل المثال أن معظم المستشرقين مثل جولدزيهر، براون، بروكلمان، بلاشر، وات.... وعلمائهم ناصبوا العداء للإسلام . إن البابا جان بنديكت السادس عشر زعيم المسيحين الكاثوليك في العالم الذي دارس حول الإسلام دراسات عديدة، وصل فيها إلی عداوة و تشويه صورة الإسلام لا إلی هدايته وحقانيته. في هذا المجال يقول الكاتب الإسلامي دكتر عبد الكريم بكار "حين سقط المعسكر الشيوعي صار الغرب ينظر إلی العالم الإسلامي علی أنه العدو القادم الذي ينبغي أن ترصد تحركاته و أوضاعه وكلما أحرز المسلمون _في قطر من أقطار العالم الإسلامي_ نوعاً من التقدم في اتجاه التمسك بالإسلام ازداد خوف الغرب من العالم الإسلامي" (بكار؛ 16)
أما صورة الإسلام في ذهن الغربيين العامة وأشباه العامة فإن اعتقادهم بهامشية الشعوب الإسلامية خاصة أدی إلی احتقار وجهل عريضين بجغرافية الإسلام وتاريخه ودينه وشؤونه وثقافته مما هيّأهم علی نحو فريد للوقوع فريسة سهلة في شباك رغبات كُتاب وصناع الروايات والمسرحيات و الأقصوصة الطويلة والصغيرة ومخرجي الأفلام والمسلسلات و وسايل الإعلام، فإن العالم الإسلامي في رأيهم، ذونزوات مفاجئة غير مألوفة كما أنه أسير الغضب الأعمی وسادر في الملذات وأسير الشهوات،عالم الإسلامي موطن السحر والخرافات والأوهام والقداسة ورجالهم ونساءهم فقدوا هويتهم وهم طاقات للعمل وهو موطن النسل الوفير والكوارث الطبيعية من الفيضانات والزلزال التی تحصد ألوفا من البشر وهو لايعرف حرية الأفراد وحرية التعبير بل عالم دموي متطرف و إرهابي ومستبد وظالم وفتاك، والبلدان الإسلامية التي أحرزت بعض التقدم التقني أحرزته بتفكير الغرب ومنهجيته وتقنيته ؛ غافلاً عن اعتراف علماء الغرب بالتفكير التجربي للمسلمين . يقول محمد قطب في هذا المجال "فلا يقف الإسلام في سبيل التقدم العلمي والتقدم الحضاري بل إن الإسلام هو الذي بعث المسلمين لينشئوا حركة علمية ضخمة كان من أهم آثارها المنهج التجریبي في البحث العلمي الذي تعلمته أروبا علی يد المسلمين في الأندلس والشمال الأفريقي وصقلية وجنوب إيطاليا الإسلامي والذي قامت عليه نهضتها العلمية الحاضرة"( محد قطب؛ 337) وكما ورد في كتاب _ بحوث في أصول التفسير- يقول صاحب الكتاب "يعترف المنصفون من علماء الغرب ومفكريه و يقررون أن المنهج التجریبي هو هدية المسلمين إلی الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية"( صباغ؛ 1) إنّ الذي يغذي هذه الصور في أذهان الغربيين و يقوي وجهاتهم ويتجلی تلميعها وتأجيجها هو رواسب الحروب الصليبية العصبية والعلمانية المادية الجدلية مرتكزة علی آراء فلاسفة قرن الثامن عشر ومن بعدهم مثل كانط وهيجل وفوكوياما والتشوية الإعلامي المعتمد الذي تقف وراءه وسائل الإعلام العنصرية والتَّعرية بالإضافة إلی سوء أحوال المسلمين وفقدان تزعّم الإسلامي والشوری الذي مبني علی العقلانية في كثير من مجالات الحياة و شناعة الأعمال غير المقبولة التي تقوم به جهلة المسلمين من انتهاك الحرمات وأكل الحقوق والاستبداد برأي عندهم؛ أضف إلی ذلك أن الغرب المعاصر لا يستطيع أن يهضم ويتفهم وضعية لا ينفصل فيها الدين عن الدولة كما لا يستطيع أن يستوعب منطقية ديننا وأيّ دين تغطی أحكامه كل حياة البشر ومجالاتها. و الغرب في جميع أطواره قديماً وحديثاً يفهم الدين علی أنه شأن شخصي و علاقة خاصة بين العبد و ربّه ويعتقدون بعدم قدسية الإنجيل ولذلك حرّفوا الإنجيل باسم التجديد البروتستاني وحرّفوا دستورات و قوانين المسيحية الأصيلة من الحكم علی الحياة التي نُزلت من أجل إقامتها عليه. و كما يقول طه جابر العلواني: "فالمسيحية قد تحولت علی يد الغرب الأروبي إلی الرسوم المثقلة بالموروث الهيليني والروماني ولم يعد لها ثمة علاقة بالأصل التوحيدي الذي جاء به عيسی عليه السلام في الأرض المقدسة التي بارك الله حوله ولقد تكوّنت الحضارتان الهيلينية والرومانية ضمن نسق حضاري له نظرته الخاصة للإنسان وهي نظرة تسمح باستعباد الإنسان بوصفه طاقة للعمل وتسخيره؛ والغربيون المعاصرون ورثة تراث هاتين الحضارتين لم تختلف نظرتهم للإنسان؛ وهذا النسق الحضاري بشقيه الوارث والموروث بنی علی هذه النظرة للإنسان المؤدية للصراع والتضاد والتنابذ لا محالة "(العلواني؛ 32)
يقول العلامة رشيد رضا في ذيل هذه الآية (( ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزَّل عليكم من خير من ربكم )) "فهم لحسدهم - في الأزمنة الماضية والحاضر والمستقبل - لا يودّون أن ينزل عليكم أدنی خير من ربكم وأن الحاسد لغباوته وفساد طويّته يكون ساخطا علی الله ومعترضاً عليه أن أنعم علی المحسود بما أنعم " (رشيد رضا؛336) وفي ختام هذه الرحلة لا أريد أن أقول أن كل ما لدی الغرب مجموعة من الشرور و له ثقافة الشرور بل أود أن نفهم قيمنا وتصوراتنا وثقافتنا وعلاقتنا بالدين الرباني الذي أنزل لإقامة الحياة عليه و نعرف واقعهم و أفكارهم وآراءهم وثقافتهم وعلاقتهم بالدين الرباني الذي هو سر الحياة حتی نستفيد من إيجابياتهم وإنتاجاتهم لا من سلبياتهم وهذا مهم جداً للمسلم المعاصر وفهم العصر الذي يعيش فيه اليوم. يتبع...
المصادر:
1- تفسير المنار؛ رشيد رضا
2- بحوث في أصول التفسر؛ محمدبن لطفي الصباغ
3- ركائز الإيمان؛ محمد قطب
4- عصرنا والعيش في زمانه الصعب؛ عبدالكريم بكّار
5- الحركات الإسلامية المعاصرة؛ طه جابر العلواني.
الآراء