لن يجد الباحث المحايد صعوبة فى تقصى الأسباب التى قيضها الله تعالى لنشر دين الإسلام إذا ما جد في البحث عن تلك الأسباب في ذات الدين ومادته بتروٍ ومنهجية علمية لاتنقصها النزاهة، أو قرأ العديد من الدراسات المستفيضة في عالم الشرق أو الغرب تلك التي تعزو الأسباب لمظانها الحقيقية أو الانقلاب عليها لإفراغها من مضمونها بسوء طوية حقدًا على الإسلام، أو وضع العراقيل التي تعطل زحفه الهادي الهاديء الهادر نحو القلوب، فمن قائل بحق : إن قوة الإسلام التي ما تزال سببًا في سرعة انتشاره وإقبال رواد الحق إليه، إنما هيَّ في قوة الحق الهادي الذي يرونه باديًا على محياه. وهو حق يتضافر على إبرازه الوحيان: كتاب الله المنزل وسنة رسوله المبينة، ولا بقاء له بأحدهما دون الآخر، أو أن الإسلام دين سماحة ويسر، شُرعت أحكامه ليعتنقها أكبر قدر ممكن من البشر كما يقول الشاطبى: (ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها، أما الاعتقادية فأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم، أو بليداً، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك) [1].
أكثر سر انتشار الإسلام بارزٌ في فطرته، وكَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها، ومعنى ولادة كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس الطبيعة، وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه - على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة[2].
ويكمن السر أيضًا في سماحة الإسلام؛ إذ يضع الإسلام قوانين عادلةً رحيمة مع الأعداء، بدون تدمير، أو ظلم، أو إبادة، أو انتقام؛ فالقرآن يَهدِي للتي هي أقوم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتُعِث رحمةً للعالَم كُلِّه مسلمِه وغير مسلمِه[3].
ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام، وإنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد الكتابية، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر وفي فارس، وهيَّ أمة عريقة في الحضارة كانت قبل التحول إلى الإسلام تؤمن بكتابها القديم، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس وصقلية كما تحول إليه أناس من أهل النوبة الذين غيروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة. ورغبهم جميعًا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع [4].
يعدد الدكتور حسين مؤنس [5] تلك الأسباب، فيقول: (والخلاصة أن داعية الإسلام الأكبر هو الإسلام نفسه، فقد تضمنت عقيدته وشريعته من الفضائل ما يجعل الناس يحرصون أشد الحرص على أن يدخلوا فيها، ثم إن الإسلام يعطي الداخل فيه كل شيء ولا ينتقصه شيئا، فإن الإنسان يكسب الصلة المباشرة بالله سبحانه وتعالى، ويجد الطريق إليه فيقف بين يديه خمس مرات في اليوم، ويدعوه دون حجاب، ويكسب الأمل في حياة أسعد وأرغد في هذه الحياة الدنيا، ثم حياة الخلود في دار البقاء، ولا يكلفه ذلك إلا النطق بالشهادتين، واتباع شريعة الإسلام، وكلها خير ومساواة وعدل والحق أن أصدق وصف يطلق على الإسلام في هذا المقام، أنه "دين طيار" ينتقل من إنسان إلى إنسان ومن أمة لأمة في سهولة ويسر، كأن له أجنحة قدسية تحمله وتجري به مجرى الريح! وإنك لتنظر إلى خريطة الأرض، وتتأمل مدى انتشار الإسلام، فتتعجب من سعته، ويزداد عجبك عندما تتبين أن ثلث هذه المساحة فحسب هي المساحة التي فتحتها الدول وأدخلت الجيوش فيها الإسلام. أما الباقية فقد دخلها الإسلام، وملأ قلوب أهلها دون جيش منظم، أو سياسة مرسومة لذلك!! إنما هو الإسلام نفسه، جعله الله خفيفا على القلوب، قريبا إلى النفوس، ما تكاد كلمة الحق تصافح أذن الرجل حتى يصل الإيمان إلى قلبه، فإذا استقر في قلبه لم يكن هناك قط سبيل إلى إخراجه منه، فهو الري الذي تظمأ إليه النفوس وتستقي منه، وهو الأمل الذي يخفف على الإنسان وطأة المسير في هذه الدنيا، ويهون عليه الموت، فالموت ليس آخر رحلة الإنسان مع الحياة بل هو المدخل إلى الحياة فحسب، وبعد هذه الحياة حياة هي أسعد وأبقى لمن صدق إيمانه واتقى. ولعل أكبر أسباب خفة الإسلام على القلوب هو: وضوحه وصدقه، فإنك إذ تؤمن بالإسلام لا تؤمن بأسرار أو أمور لا يقبلها عقلك، كما ترى في الأديان الأخرى، حتى الغيب الذي تؤمن به في الإسلام حقيقة، فإن الإنسان لا يرى الله بالعين المبصرة، وإنما يحس به في نفسه، وفي كل ما حوله بالبصيرة المنيرة، والحقيقة الكبرى في هذا الكون هي خالقه، فهو الحق ولا حق غيره، وأنت لا تؤمن بالله؛ لأن داعيك إليه يأتي بمعجزات أو خوارق، وإنما هو يلفت نظرك إلى عجائب الخلق، وكلُّ ما فيه معجز وخارق، وأنت تراه رأي العين في شخصك الذي يعيش ويتحرك ويفهم، لا تدري كيف، فإذا لم تؤمن بالله فكيف فكيف تعلل حياتك، وحركة جسدك، ونبض قلبك ؟ فإذا آمنت بالله لم يكن لك مفر من أن تؤمن بنبيه صلى الله عليه وسلم الذي حمل إليك رسالته، فالله سبحانه حق، ونبيه صدق، وكل ما يعدك به القرآن حق وصدق، ولست تحتاج إلى من يشرح لك حقيقة الإسلام حتى في نفسك، وغاية ما تحتاج إليه من يذكرك بها، وهذا معنى من معاني تسمية الله سبحانه للقرآن بالذكر والذكر الحكيم).
يذهب الشيخ محمد أحمد عرفة في ذات الاتجاه الذي تبناه الدكتور مؤنس في أن الإسلام نفسه كدين يحمل سر انتشاره، فيقول[6]: (لم يشهد الوجود دينًا انتشر بسرعة جاوزت حد العجب، وعم جزءًا كبيرًا من المعمورة ودخل الناس فيه أفواجًا في زمنٍ قليلٍ مثل الدين الإسلامي. فقد انبثق كالفجر يبدو ضئيلاً ثم يستطير حتى يعم الأفق، ثم يشتد النور ويقوى حتى يكون نهارًا مشرقًا منيرًا، يكون فيه للناس غدوٍ ورواح، ومعاشٍ ومتاع.. من ذلك نعلم أن الإسلام كان يسير مسير الشمس في البلاد، ويهب هبوب الريح الطيبة في الأفكار، ويقطع الأرض كأنه الليل والنهار.. إنها لمعجزةٍ تاريخيةٍ حقًا لم تعهد لملة غير ملة الإسلام.. ويرجع سر انتشاره إلى أمرين: في الإسلام نفسه، وفي الداعي إليه وأصحابه وخلفائه من بعده.. أما الإسلام فقد حمل عناصر الحق والخير والقوة، والجمال المعنوي).
بينما ينبهنا الدكتور محمد الهاشمى الحامدي[7] إلى السر الكامن وراء انتشار الاسلام سواء في عهد الرسول أو حتى وقتنا الحالى ـ من وجهة نظره ـ فيقول:(إن أخلاق محمد بن عبد الله التي مدحها القرآن الكريم مفتاح أساسي في فهم سر انتشار رسالة الإسلام في قلوب الناس شرقًا وغربًا، وفي فهم سر انتشاره على مر العصور).
هذا فيما استقصيناه من كلام أهل الإسلام، ولو تتبعنا أقوال أهل العلم والفكر من الغرب لطال بنا المقام نظرًا لوجود اختلافات بينهم حول هذا السر يرصده فرانشيسكو جابريللي [8]: (لايزال المؤرخون يختلفون حول ظاهرة انتشار الإسلام كعقيدة كونية وقوة عالمية،إنها بالنسبة لأولئك الذين يدرسون الديناميكية الغامضة لهذه العملية، لا تعد شرقية ولا غربية، كما لايمكن إعطاؤها أي تحديد جغرافي أو ثقافي إنها فقط القوة العجيبة التي تشع من العقيدة الجديدة. ومن الدولة التي أقامتها هذه العقيدة، والتي تمت في كل إتجاه، وأنتجت حضارة موحدة إلى حدٍ يدعو إلى الدهشة، وذلك رغم الاختلاف الشديد بين البيئات والمستويات الثقافية التي ازدهرت عليها)[9].
وفي الوقت الذي لاتستطيع فيه المستشرقة الإيطالية "بيانكا ماريا سكارسيا"[10] تفسير سر جاذبية الإسلام، فتقول: (إن الشريعة القرآنية تمارس جاذبيتها على ملايين الناس، فالإسلام يشهد بشكل دائم إقبالاً أكثر على اعتناقه، ويصعب تفسير تنامي هذه الظاهرة، في أوروبة خاصة، إذ أن الإسلام ينحو لأن يُمثل اليوم خيارًا بديلاً عن الحضارة الغربية)، يرى المستشرق الألماني "أولرش هيرمان" أن الإسلام: (دين جذاب جدًا، وهذا يعود – ربما – إلى وضوح الرسالة الإسلامية، وجاذبية أخلاقها ولأسباب لا أعرفها!)، ويعجز "هيرمان إيلتز" عن اكتشاف هذه الظاهرة، فيقول: (إن الإسلام هو أسرع الديانات انتشارًا في العالم اليوم .. هناك إذن شيء حقيقي يجذب إليه العديد من نخبة الناس)، بينما تعجب الدكتورة الإيطالية لورا فينشيا فاليري حين تكتشف أن هناك سر يحويه الإسلام يصل إلى أن يكون قوة، ولكنها تعجز عن تحديد مكانها في جغرافية وبناء هذا الدين الذي لا يقاوَم، فتقول: (أية قوة عجيبة تكمن في هذا الدين؟! أية قوة داخلية من قوى الإقناع تنصهر به؟! ومن أي غوْرٍ سحيق من أغوار النفس ينتزع نداؤه استجابة مزلزلة؟!).
ومثلما قرن الشيخ محمد عرفة بين انتشار الإسلام وانبثاق الفجر حيث يبدو ثم يعم الأفق، ثم يشتد النور ويقوى حتى يكون نهارًا مشرقًا منيرًا، جاء رصد ووصف C.A.O. Van Nieuwenhuijze "س.أ.أو. فان نيووينهويجزه" معه من حيث التوصيف والنتيجة ويختلف عنه من حيث الأسلوب، إذ يرى أن انتشار الإسلام: (يشبه بقعة الزيت: فهو تدريجي إلا أنه فعال. كذلك فإن الكثيرين قد أشادوا بالطبيعة السلمية لهذا الانتشار. وبالفعل, كان قبول العقيدة الإسلامية عملية تدريجية. و لم يكن الاهتمام ينصب على النظر بطريقة نقدية في المعتقدات والمواقف, بقدر ما كان ينصب على التمثل الهادىء لعناصر العقيدة والسلوك)[11].
أما سر انتشار الإسلام عند الكاتب الأمريكي ر. ف. بودلى [12] فهو التوحيد، فيقول: (إن أعظم الكبائر فى نظر الإسلام الشرك بالله، وأن محمدًا لم يدَّعِ لنفسه صفة إلهية، وكثيرًا ما صرح بأنه بشر يوحى إليه، وأن السبب في سرعة انتشارالإسلام عن غيره من الأديان هو عدم إدعاء النبي محمد صفة إلهية، وعدم دعوته إلى عبادة شخصية، وكذلك تسليم القرآن بصحة الديانات المنزلة من قبل).
إن السر الأول والأهم في الإسلام يكمن في بساطة تعاليمه ووضوحها مما شكل الأثر الأكبر في جذب القلوب نحوه، إذ كل ما يطلب من الذي يدخل فيه هو نطق الشهادتين.. إن هذه العقيدة البسيطة لا تتطلب تجربة كبيرة للإيمان، ولا تثير في العادة مصاعب عقلية خاصة، وإنها لتدخل في نطاق ــ أقل درجات ــ الفهم والفطنة، ولما كانت خالية من المخارج والحيل النظرية اللاهوتية، كان من الممكن أن يشرحها أي فرد، حتى أقل الناس خبرة بالعبارات الدينية النظرية، فهو دين فطرة بطبيعته سهل، لا لبس فيه ولا تعقيد في مبادئه، سهل التكيف والتطبيق على مختلف الظروف [13].
ولقد لفت انتباه الراصدون من المستشرقين الجانب العقلي التي تتميز به العقيدة الإسلامية، والذي ساهم مساهمة فعالة وواضحة في سرعة قبول هذا الدين بين شعوب وقبائل شتى لها مشارب وعقائد وعقول متباينة، فكانت أوصافهم التي تحيط الدين الخاتم والحق بأوصاف مثل: أنه دين في جوهره دين عقلي[14] وهو الدين الذي يخاطب عقل الإنسان، ويضع يده على بداية الطريق ليحقق السعادة في الدنيا والآخرة[15] بل هو دين العقل ، ولا يحتاج مثل هذا الدين إلى القهر والجبر لنشر تعاليمه ، ويكفي أن الناس عندما يفهموا أصوله يسارعوا إلى اعتناقه ، لأن هذا الدين منسجم مع العقل والفطرة البشرية[16] .
أو كما يقول "ناجيمو راموني" [17]: ( إن الإسلام هو أعظم الأديان ملاءمة لجيلنا المتحضر ولكل جيل. فالإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا بحيث تتحول الحياة إلى طريقين مختلفين تمامًا، وهذا يشكل خلاصة الأزمة المعاصرة للإنسان. لقد اعتنقت الإسلام لأنه دين طبقات الناس جميعًا، كبيرها وصغيرها، غنيها وفقيرها، دين الأحرار والعبيد، والسادة والمسودين)[18] .
في حين يرى المستشرق الإنكليزي رينولد ألين نيكلسون Reynold Alleyne Nicholson [19] بأن القرآن الكريم هو سر تقدم الإسلام، ولاغرابة في تبنيه لهذا الرأي فهو الذي قام بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية، يقول: )إن من أهم العوامل الموثرة في تقدم الدين الإسلامي هو القرآن الكريم الذي منشأه الوحي الإلهي للأحكام بوساطة جبرائيل).
تكتلت ثلة من المستشرقين وغيرهم ممن هالهم سرعة انتشار الإسلام فدأبوا لا على دراسته فحسب بل إعلان الحرب عليه دون مواربة وذلك بترديد الإفك وبث الأكاذيب القديمة/الجديدة تحت ستار البحث العلمي ظنًا منهم أنها ستساهم في وقف جريان نهر الإسلام العذب، وتأتي على رأس ترهاتهم فرية انتشارالإسلام بالسيف تلك الأكذوبة الفجة التي دحضتها وقائع التاريخ، وأقلام ممن هم من بني جلدتهم من العلماء والأدباء المشهور عنهم الحيدة والالتزام العلمي والمنهجي.
أثبتت الأيام كذب دعواهم الساقطة، فأين هو سيف محمد وأين سيوف الفاتحين من أتباعه التى تجبر أو تُكرِه أو تضطهد؟! ولئن زالت ممالك الإسلام وتَقسَّمت دولاً ودويلات وجثم فوق صدر شعوبها الاستعمار وعانت ماعانت من الاحتلال فلما لم ترتد وتتدين بدين الغالب لتنعم بالحرية والرفاهية رغم مامارسته أذناب هذا المستعمر من فنون وأفاعيل في تسويق عقيدته..؟! لماذا لم يلفظوا ديانة محمد وشريعة الله من قلوبهم وهم أذلة مستضعفون..؟! ولماذا وهم أراذل الأرض ـ كما نعتهم أحد أراذل الشرق المبهورين بالغرب ـ لماذا تهفو فراشات القوي الكوكبي المنتصر الغالب نحو نور الإسلام بلا إكراه أو اضطهاد أو تسويق رخيص بالمغريات كما يفعل الآخر..؟!
كما كذبت وتكذب دعواهم تلك نظرة واحدة على الإحصاءات والبيانات التى توردها بلاد الغرب ذاتها وتثبت انتشار الإسلام بين مواطنيها على أراضيها، لترد الرد المفحم على من يرددون تفاهة وخرافة السيف فى نشرهذا الدين، ليعلم بعدها أين يجد سيف محمد. هذا السيف الخالد الساخن الذى يبقر بطون الشرك والذى يمضى بقدر الله؛ فسيف محمد: رحمته، عدله، سيرته، سماحة الدين الذي أُرسل به وسماحته هو صلى الله عليه وسلم؛ فالشاهد من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يُكرِه أحدًا قط على الإسلام، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه؛ امتثالاً لأمر ربه سبحانه، حيث يقول: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ" [20].
يؤكد مانقول المستشرق البريطاني لين بول [21] حين يقول: (إن ما اتصف به "محمد" من الصبر واحتمال المكاره ، والعفو عند المقدرة ، لبرهان لنا واضح على أنه كان صادقآ إذ يقول : " لا اكراه في الدين " فمحمد ذو يقين راسخ وقوة عزم هائلة).
يحدثنا خالد محمد خالد عن سيف محمد صلى الله عليه وسلم [22] فيقول: (وكما جاء عيسى ليكمل الشريعة .. جاء محمد ليستأنف المسيرة . ولقد كان الصليب الكبير الذى أعده المجرمون للمسيح .. يتراءى للرسول دومًا، وما كان من الخير أن يُمَّكن المجرمون من انتصار جديد .. يتلمَّظون فيه بدم رسول شهيد .. فإن محمدًا، قد حمل "سيفه" من أجل السلام، كلاهما. سيف .. الصليب الذى حمله المسيح . سيف . أراد اليهود أن يقضوا به على "ابن الانسان" ورائد الحق .. وسيف محمد . سيف، أراد أن يقضى به على أعداء الإنسان ، وأعداء الحق. وغاية الرسولين واحدة : السلام).
أما جورج سيل فيقول [23] ردًا على أولئك الخادعين المخدوعين: (لقد صادفت شريعة محمد ترحيبًا لامثيل له فى العالم. وأن الذين يتخيلون أنها انتشرت بحد السيف إنما ينخدعون انخداعًا عظيمًا).
لم ينتشر الإسلام بالسيف، ولكنه انتشر رغم السيوف التي واجهته فلقد تمكن من التوغل في أقطار أفريقيا ومع هذا فلم يسجل التاريخ أي غزوات للمسلمين بل انتشر بالتسرب السلمي البطيء لأنه دين لايعرف التمييز فلم يفرق بين الأبيض والأسود، ولم ينه أتباعه عن الزواج من نساء البلاد الزنجيات، فتزوجوا وتناسلوا، حتى ذهب بعضهم إلى أن اِلإسلام هو دين السود بينما المسيحية هى دين البيض.
ويشهد على هذا الكاتب المسيحي الفرنسي "هوبير ديشان" ــ حاكم المستعمرات الفرنسية بأفريقيا حتى سنة 1950 ــ حين يقول :(إن إنتشار دعوة الإسلام بإفريقية لم يقم على القوة ، وإنما قام على الإقناع الذى كان يقوم به دعاةً متفرقون لايملكون حولاً ولاطولاً إلا إيمانهم العميق بدينهم ، وكثيراً ما انتشر الإسلام بالتسرب السلمى البطىء من قومٍ إلى قومٍ ، فكان إذا اعتنقته الارستقراطية وهى هدف الدعاة الأول تبعتها بقية القبيلة ، وقد يسر انتشار الإسلام أمرٌ آخر ، هو أنه دين فطرة بطبيعته ، سهل التناول ، لا لبس فيه ولا تعقيد فى مبادئه ، سهلُ التكيف والتطبيق فى مختلف الظروف ، ووسائل الانتساب إليه أيسر وأيسر)[24].
ولقد كتب عالم الأنثربولوجي، س.ك. ميك(1885-1965)C.K. Meek [25] فى كتابه قبائل نيجيريا الشمالية: (إن الإسلام لم يترك أثرًا عميقًا في التركيب الجنسي لهذه الشعوب فحسب، بل أنه جاء بحضارة جديدة أتاحت للشعوب الزنجية طابعًا حضاريًا متميزًا).
هذه الأخوة التي يقر بها المبشر الأمريكي "ساليب" [26]: (إن المتحول إلى الإسلام يصلي إلى جانب أستاذه! إن الأخوة في الإسلام ليست دينية فحسب وإنما اجتماعية أيضًا. الإسلام لا يرسم خطًا لونيًا بين الأبيض والأسود).
وإذا كان الإسلام لم يدخل أفريقيا غازياً بالسيوف فقد نهج نفس النهج حين دخل آسيا غازيًا القلوب بالرحمة والعدل، وتقف أندونيسيا خير شاهد على هذا وتُحدث من أراد عن انتشار الإسلام فى أكثر من ألفي جزيرة فيها دون أن تلامس ثراها أقدام أى جيش إسلامي، وكذلك كان إسلام ماليزيا بدون حروب أو سيوف. كما يقول ديدات [27] ، ويذكر الدكتورأحمد شلبى [28] أنه عاش فى أندونيسيا سنوات ورأى بنفسه: (الإسلام وهو ينتشر بين الأندونيسيين بيسر وبساطة، وهو يهزم الديانات الأخرى والأفكار المتعددة ويتقدم إلى الطليعة لاتدفعه إلا مبادئه السمحة وتعاليمه المعقولة الهادئة البسيطة. فقد سار الإسلام وتسرب فى النور وبالدعوة السلمية إلى أكثر من تسعين فى المائة من سكان أندونيسيا وهم حوالى مائة وخمسين مليونًا).
لقد انتشر الإسلام بالمحبة الحقيقية عندما ساوى بين جميع أجناس البشر .. وجعل التمايز بالتقوى .. هكذا جاءت الدعوة بالمساواة نظريًا في آيات القرآن الكريم، وأحاديث نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وتجلت عمليًا في سلوك المسلمين سواء في حياتهم أو عباداتهم ورصدتها الشاعرة الهندية ساروجيني نايدو ساروجيني تشاتوبادياي Sarojini Naidu (1879 – 1949) التي عاصرت المسلمين[29] فتقول: (إن الإسلام أول دين ينادي ويطبق الديمقراطية .. عندما ينادي للصلاة في المسجد ويتجمع المصلون تُطبَّق الديمقراطية خمس مرات في اليوم عندما يركع الفلاح والملِك قائلين "الله أكبر"، وأعجبتني مرارًا تلك الوحدة الإسلامية التي جعلت البشر إخوة بالفطرة).
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه [30]: (لا إكراه في الدين، هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه، إلى السادة الفاتحين).
ويقارن بعض الباحثين، أمثال "بيرين"، بين فتح الجرمان للعالم الروماني والفتوحات العربية الإسلامية ويقول: (عندما انتصر الجرمان على الرومان ــ في القرن الخامس الميلادي ــ فإن الجرماني ــ المنتصر ــ هو الذي انجذب تلقائيًا إلى الروماني ــ المغلوب ــ وتخلّى تدريجيًا عن "جرمانيته" و "تَرَوْمَنَ" لأنه لم يكن يحمل دينًا أو ثقافة ليواجه بها مسيحية الرومان وحضاراتهم. أما بالنسبة إلى العرب المسلمين ــ المنتصرين ــ فإن سكان البلاد المفتوحة هم الذين انجذبوا إلى الفاتحين المسلمين و "استعربوا" لأن الفاتحين كانوا يحملون عقيدة جديدة ومباديء حضارة وليدة، أي أخذت هذه الشعوب تعتنق دين الفاتحين المسلمين وتتعلم لغتهم العربية، دون استخدام البعثات التبشيرية أو ممارسة أي شكل من أشكال الضغط. وتؤكد المصادر أن كثيرًا من سكان البلاد، الذين اعتنقوا الإسلام، أسهموا في المراحل التالية لحركة الفتوحات الإسلامية إسهامًا فعالاً[31].
لا أعتقد أن هناك من يجهل قدر المستشرقة الألمانية الشهيرة الدكتورة آنا ماري شيمل "Annemarie Schimmel"ورسوخ علمها وتبحرها في العلوم الإسلامية، ومن ثم فإن شهادتها تقف وحدها دليل صادق يصل إلى حد التعريف الجامع المانع حين تقول[32]:(كلا، إنني لم أجد في القرآن ولا في السنة أي أمر يدعو إلى الإرهاب، أو الاختطاف، أو نص يجيزهما. بل أن مدار الأخلاق في الإسلام هو القاعدة الذهبية(.
وينفي المؤرخ والمستشرق الإنجليزي "A. S. Tritton" آرثر ستانلي ترتون (1881ـ 1973) كل هذه الترهات نفيًا تامًا، فيقول [33]: ( أن صورة الجندي المسلم المتقدم وبإحدى يديه سيفًا وبالأخرى مصحفًا هي صورة زائفةً تمامًا).
(The picture of the Muslim soldier advancing with a sword in one hand and the Qur'an in the other is quite false).
وقد اعترض الإمام ابن القيم [37]على من يعتمد في الخطبة على السيف إشارة إلى أنَّ دين الإسلام فُتِحَ به، فقال: (وكثير من الجهلة كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أنَّ الدِّين إنَّما قام بالسَّيف، وهذا جهل قبيح من وجهين أحدهما: أنَّ المحفوظ أنَّه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس. الثاني: أنَّ الدين إنَّما قام بالوحي وأمَّا السَّيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنَّما فُتحت بالقرآن ولم تُفتح بالسيف).
ولقد قام المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد [38] بأبحاث مستفيضة حول انتشار الاسلام انتهى إلى القول الفصل: (لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي، ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها "فرديناند وإيزابيلا" دين الإسلام من إسبانيا، أو التي جعل بها "لويس الرابع عشر" المذهب البروتستانتي مذهبًا يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة).
هذا التسامح الإسلامي الذي لا يجد المستشرق برنارد لويس [39] بُدًا من الاعتراف به رغم عداوته للإسلام، فيقول: (كان الغرب مهددًا بإمبراطورية مناضلة ومتوسعة، تحفزها صفتان متلازمتان لكل دولة تستهدف القوة، هما شهوة الفتح والشعور بحمل رسالة، ويقويها إيمان متزمت بالصراع الدائم الذي سوف ينتهي بالنصر المحتوم. لكن من الواجب ألا نمضي في هذا التشبيه أبعد مما ينبغي. "ففي حالة الصراع بين أوربا والأتراك" كان هناك ترفع وتزمت من كلا الجانبين، وكان الأتراك هم الجانب الأكثر تسامحًا).
وما أجمل أن يقدم الفن الإسلامي برهانه على سلمية الإسلام الفاتح، فيقول أحمد محمد عيسى [40]: (والواقع أن تطور الفن الاسلامي وانتشاره في بلاد تمتد أكثر من ستة آلاف ميل وفي زمن يقل عن قرن من الزمان، ليس مرده إلى سلطان العرب الحربي وقوتهم العسكرية، بل الى الافكار المثالية التي دلت دائما على أنها أبلغ أثراً من سلطان الجيوش، ونعود فنقول أنه لو كان انتشار الإسلام بحد السيف، لما قدر لتأثيره وفنونه أن يستمرا أكثر من جيل أو جيلين، ولما وجدنا مادة خصبة لموضوع هذا الحديث).
لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة كامن في طبيعته. كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية .. كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد[41].
يقول الدكتور محمد حميد الله[42]: (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم مع أنه استولى على أكثر من مليون مربع مما يعادل كل أوربا باستثناء روسيا ومع أنه كان يسكن هذه المنطقة ملايين من البشر لم يقتل في كل حروبه من طرف المسلمين إلا مائة وخمسون مسلمًا، إن هذا العدد يعادل كل قتيلاً واحدًا في كل شهر تقريبًا)[43].
إن الدفوع والنقول من الأقوال والشواهد التاريخية والبراهين العقلية كلها تؤدي إلى نفي تلك الفرية الشنعاء عن الإسلام المسالم، ولو لم نقصر بحثنا هذا على موضوعه ونقلناه إلى مجال مقارنة الأديان لبان بدون جهدٍ طويل من هو الدين الأحق بوسمه ووصمه بالانتشار بالسيف.
أكاد أجزم، بأنه لو لم يكن الفاتحين الأول مسلمين، لتبارى المستشرقون في وصف وتمجيد أعمالهم الرائعة، لقد كان إسلامهم هو السبب فيما نالهم من طعنٍ وتجريح على يد هؤلاء المستشرقين[44].
يساهم الشعر في دحض هذه الفرية النكراء بأبياتٍ غراء لأمير الشعراء أحمد شوقي من قصيدته الباقية ما بقيَّ الدهر"نهج البردة" في الرد على حاملي جرثومة الإفك الدائم على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، كأصدق وأبلغ مايمكن قوله ضد كل من يصدق بخرافة السيف، حيث يقول:
:
قالوا غَزَوتَ وَرُسلُ اللَهِ ما بُعِثوا
لِقَتلِ نَفسٍ وَلا جاؤوا لِسَفكِ دَمِ
جَهلٌ وَتَضليلُ أَحلامٍ وَسَفسَطَةٌ
فَتَحتَ بِالسَيفِ بَعدَ الفَتحِ بِالقَلَمِ
لَمّا أَتى لَكَ عَفوًا كُلُّ ذي حَسَبٍ
تَكَفَّلَ السَيفُ بِالجُهّالِ وَالعَمَم
وَالشَرُّ إِن تَلقَهُ بِالخَيرِ ضِقتَ بِهِ
ذَرعًا وَإِن تَلقَهُ بِالشَرِّ يَنحَسِمِ
َسَلِ المَسيحِيَّةَ الغَرّاءَ كَم شَرِبَت
بِالصابِ مِن شَهَواتِ الظالِمِ الغَلِمِ
لقد حاول كل مفكر وكاتب وعالم من الشرق والغرب، من أهل الملة وممن لايدينون بها في البحث عن السر الذي يتميز به "الإسلام" ومنهم من وفقه الله إلى بعضه، ومنهم من جد وارتج عليه الأمر، ليظل "الإسلام" دينٌ يحمل سره بين حناياه، يجود به على من شاء له الله ــ تعالى ــ أن يهديه للنور، ويضن بهذا السر على من حُرِّمَ الهداية.
ومكمن السر الأعظم في هذا الدين هو توحيد المعبود وإفراده بالألوهية وهو أمرٌ مبثوث في الفطرة البشرية السوية قبل تلويثها بالشرك والإلحاد، فإذا مر نور الإسلام ببوصلة التنزيه تحركت حديدة القلوب الصدأة لتنجذب رويدًا في حالات أو فجأةً في حالاتٍ أخرى، فتنفِّض عنها أدران الكفر وتعلن بصوت الحق مثولها الخاضع الخاشع بين يديّ الواحد الحق ــ عز وجل ــ والتسليم له بالألوهية الكاملة والعبودية المطلقة بأحلى ما ينطق به الفم كمصب ومنبعه القلب: "أشهد أن لا إله إلا الله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الشاطبي: الموافقات (2/88) .
[2] الشيخ محمد رشيد رضا: "الحكمة الشرعية فى محاكمة القادرية والرفاعية" مجلة المنار العدد 28 جمادى الأولى 1316هـ.
[3] الدكتور ع
الآراء