حضور القلب هو الأصل في أداء العبادات لله عزوجل , و بالكيفية المطلوبة , و إلا ستكون عبادات شكلية لاتنهي صاحبه عن ارتكاب الفواحش و المنكرات , لأن القلب إذا صلحت صلح جميع الأعضاء التابعة لها .
- و حضور القلب هو روح الصلاة و يعني به : أن يفرغ القلب عن كل شيء غير ما هو ملابس له و متكلم به , و كان أبو الدرداء (رضي الله عنه) يقول : ((من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة ليدخل في الصلاة و قلبه فارغ)).
فالأصل في الصلاة الخشوع و حضور القلب و أن مجرد الحركات مع الغفلة قليل الجدوى في المعاد.
- و حضور القلب يعني التفهم للكلام ألفاظا ً و معنى , فربما يكون القلب حاضرا ً مع اللفظ ولا يكون حاضرا ً مع المعنى .
- و التفهم هو إدمان الفكر و صرف الذهن إلى إدراك المعنى , فمن أحب شيئا ً أكثر من ذكره , فذكر المحبوب يهجم على القلب , و من أحب غير الله لا تصفوا له صلاة عن الخواطر.
- و حضور القلب يعني التعظيم الذي يتولد من معرفة الله عزوجل و عظمته , و معرفة حقارة النفس و خستها , حتى يتولد من المعرفتين الانكسار و الخضوع لله سبحانه و تعالى.
- و حضور القلب يعني الهيبة و الخوف و أن يكون العبد راجيا ً بعبادته ثواب الله عزوجل كما أنه خائف بتقصيره عقاب الله عزوجل , ثم يعني الحياء , و هو استشعار التقصير في العبادة و ارتكاب الذنب و ذلك بمعرفة بعيوب نفسه و علمه بعظيم جلال الله تعالى و أنه مطلع على السر و خطرات القلب و إن دقت و خفيت
عن عائشة (رضي الله عنها) قالت : ((كان رسول الله (صلى الله عليه و سلم) يحدثنا و نحدثه فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا و لم نعرفه )).
- و قد أوصى الله موسى (عليه السلام) (( يا موسى إذا ذكرتنى فاذكرني و أنت تنتفض أعضاؤك , و كن عند ذكري خاشعا ً مطمئنا ً , و إذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك , و إذا قمت بين يديَّ فقم قيام العبد الذليل و ناجي بقلب وجل و لسان صادق.
و كان بعضهم من السلف الصالح إذا حضر الصلاة لم يعرف قط من على يمينه و يساره و آخرون كانت تصفر وجوههم , و حظ كل واحد منا من صلاته بقدر خوفه و خشوعه , فإن موقع نظر الله سبحانه القلوب دون الحركات الظاهرة , فإنه لا ينجوا في الآخرة إلا من أتى الله سليم .
- روي أن أبا طلحة صلى في حائط و فيه شجر , فأعجبه دبسي طار في الشجر يلتمس مخرجا ً فأتبعه بصره ساعة , ثم لم يدر كم صلى , فذكر لرسول الله (صلى الله عليه و سلم) ما أصابه من الفتنة , ثم قال يا رسول الله هو صدقة حيث شئت .
- الصلاة مفتاح القلوب : ((أرحنا يا بلال)) أي أرحنا بالصلاة و النداء إليها , إذ كانت قرة عينه (صلى الله عليه و سلم) , و لما كان القلب موضوع نظر معبودك عزوجل فعليك الاجتهاد بتطهير القلب بالتوبة و الندم و العزم على ترك المعصية .
فإذا نطق اللسان بالتكبير فلا يكذبه القلب , فإن كان في القلب شيء هو أكبر من الله سبحانه , فالله يشهد لصاحبه بالكذب , فالناس ثلاثة :
? رجل يتحرك لسانه و قلبه غافل .
? و رجل يتحرك لسانه و قلبه يتبعه اللسان فيفهم و يسمع منه كأنه يسمعه من غيره .
? و رجل يسبق قلبه إلى المعاني أولا ً ثم يخدم اللسان القلب فيترجمه .
مثال : عندما ينظر الانسان إلى السماء الصافية فيرى مالا يحصى من النجوم و الكواكب المتلألئة , فيقول بقلبه قبل لسانه : سبحان الخالق , هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه , كما في قوله تعالى ((الذين يذكرون الله قياما ً و قعودا ً و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض , ربنا ما خلقت هذا باطلا ً سبحانك فقنا عذاب النار)) ففرق أن يكون اللسان ترجمان القلب أو يكون معلم القلب.
- و هكذا عندما يرى الانسان الجبال الشاهقة فيتذكر قوله تعالى ((و إلى الجبال كيف نصبت)) , ((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ٍ لرأيته خاشعا ً متصدعا ً من خشية الله , و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)) و هكذا تتوارد المعاني على قلوب المقربين السالكين طريق الله سبحانه و تعالى , الذين لسانهم ترجمان القلب ولا يتبعه القلب , قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) : ((إن الله عزوجل مقبل على المصلي ما لم يلتفت تدل على أن دوام القيام يعني إقامة القلب مع الله عزوجل. و عندما يتذكر قيامه بين يدي ربه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , إذ ليس من الغافلين.
فإذا ركع وقف قلبه مع التعظيم فلا يكون في قلبه أعظم من الله تعالى وحده .
و بهذا المفهوم تتحول الصلاة إلى معناها الحقيقي من أنها صلة بين العبد و ربه , و المصلي يناجي ربه مباشرة دون أية وساطة , فيستفتح صلاته بالدعاء المأثور (وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا ً مسلما ً , و ما أنا من المشركين , إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين , لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين)... و لسان حال المصلي يقول :
هكذا أمرني ربي , بأن لا أعبد سواه عزوجل ولا أطلب العون من غيره ((إياك نعبد و إياك نستعين)).
- و كان من وصية النبي (صلى الله عليه و سلم) لأصحابه ((صلِّ صلاة مودِّع)).
فبعد القلب يستشعر القلب الوجل و الخوف و الرجاء من التقصير في الصلاة و يخاف أن لا تقبل صلاته فتردّ في وجهه و يرجوا مع ذلك أن يقبلها الله بكرمه و فضله, رحم الله يحيى بن وثاب , قيل أنه إذا صلى مكث على ما شاء الله تعرف عليه (كآبة الصلاة) و كان إبراهيم (عليه السلام) يمكث بعد الصلاة ساعة كأنه مريض , و صدق الله تعالى بعد أن بين أول صفات المؤمنين ((قد أفلح المؤمنون , الذين هم في صلاتهم خاشعون)) المؤمنون : 1 , 2 . ((أولئك هم الوارثون , الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)) المؤمنون : 10 , 11 , فالمصلون هم ورثة الفردوس و هم المشاهدون لنور الله تعالى و المتمتعون بقربه و دنوه من قلوبهم).