كثير من المعاني السامية والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة مرتبطة بشهر رمضان المبارك، ففي هذا الشهر تزداد وتنمو، ومن خلال أيامه ولياليه وساعاته تزدهر وتربو، فالصدق والأمانة وحفظ الجوارح عن المحرمات تزهو في رمضان، وتلاوة القرآن تزداد في رمضان، والالتزام بصلاة الجماعة يظهر في رمضان، وصلاة الليل والتهجد يختص بها شهر رمضان، كما أن أعمال البرّ والإحسان للفقراء والمساكين، سواء عن طريق أداء فريضة الزكاة، أو من خلال الصدقات والمبرات تكون صارخة في هذا الشهر الكريم.
ولكن أخص ما يختص به رمضان، تلك الفضيلة القلبية العظيمة، والخصلة الإيمانية الرفيعة، التي قد تخفى عن بعض المسلمين، ألا وهي إخفاء العمل والإخلاص به لله تعالى، ولعل الصيام المفروض في هذا الشهر الكريم فيه كل هذا المعنى، فالصيام بحد ذاته مخفيّ لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى، وهي خصيصة لهذه الفريضة لا تكاد توجد في سواها.
الصلاة تؤدّى جماعة في المسجد أمام كل الناس، فلا سبيل لإخفائها وعدم إظهارها، وكذلك الحج والزكاة، فلا بدّ في كل عبادة غير الصيام من وجود شخص آخر على الأقل، مطلع على طاعتك التي قمت بها، عدا الصيام فإنه العبادة والطاعة الوحيدة التي لا يطلع عليها أحد إلا الله، في دلالة إلى إخفاء العمل وفضله ومكانته في الإسلام.
جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِي | قَالَ: يَقُولُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ (الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ).
ومع اختلاف العلماء في المراد بهذا الحديث على أقوال، باعتبار أن الأعمال كلها لله تعالى وهو الذي يجزى بها، بيد أن أقوى هذه الأقوال وأصحها أن السبب في ذلك الاختصاص بالأجر والثواب، أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، ويؤيده حديث (ليس في الصوم رياء)، وذلك لأن الأعمال تكون بالحركات إلا الصوم فإنما هو بالنيّة التي تخفى عن الناس.
ويأتي التأكيد على الاهتمام والتفاعل مع هذه الفضيلة في هذا الشهر الكريم، نظراً لما نشهده من انتشار كبير وخطير لظاهرة حب السمعة والشهرة بين قطاع واسع من المسلمين عامة، والدعاة والعلماء بشكل خاص.
فقد انتشرت وسائل الشهرة والسمعة وحب الظهور في كل مكان، ولم تترك وسائل الإعلام والإنترنت للإخلاص وإخفاء العمل الصالح مكاناً، فأصبح كل شيء مطروحاً ومنشوراً على شاشات الفضائيات وصفحات التواصل الاجتماعي، مما تسبب في إفساد أعمال الناس الصالحة، بسبب الرياء وحب الظهور الذي قصم كثيراً من الظهور.
إن أول الدروس المستفادة من هذا الشهر الكريم هو التدرّب على اكتساب خلق إخفاء العمل الصالح، والتأسي بأولئك الجنود المجهولين في التاريخ الإسلامي، ممن كانت لهم أياد بيضاء ملموسة في رفعة الإسلام ونصرته، فسطر التاريخ أعمالهم الخفية الخالدة، دون أن يسجل أسماءهم التي لا يعلمها إلا الله.
لقد أنهك حب الظهور كثيراً من القلوب والنفوس، وأخمد الرياء حقيقة كثير من معاني العبادات وأهدافها وثمراتها، وحوّل كثيراً من المعاني الإيمانية والروحية القلبية العظيمة في الإسلام، إلى مظاهر وأشكال خالية من أي معنى.
لذلك نقرأ في تاريخ سلفنا الصالح الكثير من القصص والأقوال، التي تؤكد حرصهم على الإخلاص في العمل، والبعد ما أمكن عن الرياء والظهور، ففي القصة المشهورة عن صاحب النقب، تظهر مكانة إخفاء العمل الصالح في أولوياتهم، وعظيم الإخلاص في أعمالهم.
فقد ورد أن القائد المسلم مسلمة بن عبد الملك حاصر حصناً، فندب الناس إلى نقب منه، فقال: من يدخل ليفتح لنا؟ فما دخله أحد، فجاءه رجل من عرض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب.. أين صاحب النقب؟؟ فما جاءه أحد، فنادى القائد بالجيش: إني قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسود اسمه في صحيفة الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو ولا تستخبروا عن اسمه، قال القائد مسلمة: فذلك له، فقال الرجل: أنا هو، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاةً إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.
لقد كان إخلاص السلف الصالح لله تعالى في العمل، وإخفاء الأعمال الصالحة عن الناس، والبعد عن الشهرة والسمعة والرياء ما استطاعوا، سبباً رئيسياً في نصر الله تعالى لهم، واستحقاقهم لثوابه ورحمته ورضاه، ولعل حب الشهرة والسمعة الذي نراه في زماننا، وندرة المخلصين من المسلمين، هو سبب رئيسي لما نشهده من حالنا المخزي والمهين.
فهل سيكون هذا الشهر الكريم، دافعاً لنا للعودة إلى أول درس من دروسه العظيمة، ألا وهو إخفاء العمل والإخلاص لله تعالى؟؟!
الآراء