غيّب الموت كبير المغنين الإيرانيين، محمد رضا شجريان، الأسطورة الموسیقیة الإیرانیة وملک الألحان یوم الخمیس في إحدی المستشفیات في طهران العاصمة عن عمر ناهز الثمانين عاماً، بعد صراع طويل مع المرض دام خمس سنوات، لتخيم أجواء من الحزن العميق على الشارع الإيراني بمجرد سماع نبأء وفاته حسب ما تناقلته شبکات التواصل الاجتماعیة. وبعيد إعلان وفاته تقاطر مئات المعجبين به إلى مستشفى جام في طهران إلى حيث أدخل فیه قبل أيام قليلة في وضع حرج. ونقل جثمانه إلى مدينة مشهد ليُدفن، حسب وصيته، بالقرب من قبر الشاعر الملحمي “الفردوسي” مؤلف ملحمة الشاهنامة (قصة شعرية تضم نحو ستين ألف بيت)
اشتهر شجريان بغناء قصائد كبار الشعراء والصوفيين العرفانيين من أمثال حافظ وسعدي شيرازي، وعرف بألحانه المميزة لها. وقد بدأت الإذاعة والتلفزيون الإيرانيين ببث أغانیاته فضلا عن أدائه للأدعية والموشحات الدينية في شهر رمضان.
سیرته الذاتیة
ولد شجريان في مدينة مشهد شرقي إيران في عام 1940، وتعلم تجويد القرآن على يد والده، وخطا خطواته الأولى بتلاوة القرآن عبر الإذاعة الرسمية. وغناء الموشحات الدينية. وقد اكتشف والده الذي كان قارئ قرآن صوته العذب منذ طفولته وعمل على صقله؛ حاز شجریان علی المرتبة الأولی في المسابقات القرآنیة في مستوی البلاد. ثم دخل المعهد العالي للمعلمين وانضم إلى سلك التدريس وعمل في التدريس في المدارس، قبل أن يتعرف على أستاذ موسيقار ويتغير مسار حياته. وفي عام 1968 انتقل إلى طهران وواصل تعليمه الموسيقي على أيدي كبار الفنانيين التقليديين في الغناء والموسيقى الإيرانية.
وترك شجريان خلفه إرثاً حافلاً للغاية في الموسيقى والغناء، مقدماً تصنيفات غناء ستبقى خالدة في تاريخ الموسيقى الفارسية، حيث تجاوز صيته الحدود الإيرانية إلى أوساط الناطقين باللغة الفارسية في العالم وخصوصاً في أفغانستان وشبه القارة الهندية وباكستان وطاجيكستان وحظي بشعبية واسعة؛ بسبب صوته الرخيم ذي المساحة الكبيرة وقدرته الكبيرة على التحكم فيه وأداء مختلف الطبقات لم يكن شجريان مجرد مغنٍّ إيراني عتيق؛ بل كان أيضاً موسيقاراً وملحناً حافظاً للتراث، ومشاركاً لشعبه بخيباته وطموحاته، ومتابعاً عن كثب للتطورات في بلاده، التي تجاوز حدودها وأوصل بموسيقاه وصوته، تلك القضايا، إلى الناطقين باللغة الإيرانية في آسيا والعالم؛ فقد أحيا وفرقته حفلات خارج إيران في أميركا وكندا، وفرنسا، ولندن وكان له حضور عالمي بین عشاق اللحن والأغنیة الفارسية.
ومن أروع أعماله القرآنیة دعاء "ربنا" الشهیر وهي أربعة أدعية قرآنية أهداها إلى شعبه وکان یبثها الإعلام الإیراني خلال شهر رمضان ويرددها الإيرانيون واعتادوا علی سماعها في موائد الإفطار... "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" ومناجات "این دهان بستي دهاني باز شد" من أشعار مولانا.
واكتسب الفنان شهرة عالمية أيضاً؛ فقد رُشِّح مرتين لنيل جائزة غراميز، واختارته مؤسسة NPR (مؤسسة إعلامية أمريكية غير ربحية مقرها واشنطن- المترجم) كواحد من بين أفضل خمسين صوتاً في العالم. كما منحته منظمة اليونسكو في عام 1999 جائزة بيكاسو وتوجته أيضا بميدالية موزات في عام 2006 تكريما لمنجزه الغنائي والموسيقي. وإلى جانب الموسيقى عرف شجريان أيضا باهتمامه بفن الخط وممارسته للنشاطات والأعمال الخيرية.
كتبوا عن سيرته الشخصية ومسيرته الفنية، مؤلفات كثيرة، أهمها “راز مانا”، وأطلقوا عليه الكثير من الألقاب: أستاذ الأغنية الإيرانية، أبو الطرب الأصيل، خسرو الغناء، أسطورة الصوت، وغيرها، ما جعله أحد أهم رموز إيران وقيمها الثقافية،
مواقف سياسية
وعلى الرغم من أن شجريان قد كرس حياته لإحياء وأداء الغناء والموسيقى التقليدية في إيران، إلا أنها لم تخل من مواقف وصدامات سياسية؛ ففي عهد البهلوي، قرر إلغاء حفل موسيقي كان مقررا في موسكو احتجاجا على عمليات قمع المتظاهرين في بلاده إبان خروج الاحتجاجات الحاشدة ضد حكم الشاه. وبعد قيام الثورة الإيرانية واصل شجريان مسيرته الغنائية والموسيقية وإقامة الحفلات داخل إيران وخارجها، وكان يتعرض بين الحين والأخر إلى مضايقات.
ظل الفنان الفقید في جوهره فناناً ورفض أن تتحول موسيقاه إلى شعارات سياسية وفي إحدى المرات، قطع حفلاً موسيقياً في استوكهولم بالسويد، عندما بدأ قسم من الجمهور، وأغلبهم من الإيرانيين، بترديد شعارات مناهضة للجمهورية الإسلامية.
خلال فترة الاحتجاجات هذه التي شهدت صدامات بين المتظاهرين وقوات الأمن، أطلق شجريان أغنية "زبان آتش" ("لغة النار" بالفارسية)، في خطوة بدت بمثابة اعتراض على قيام عناصر الأمن بإطلاق الرصاص على المحتجين، لا سيما وأن كلمات الأغنية تضمنت عبارة "ضع سلاحك على الأرض، يا أخي".
يقول ناهد سيامدوست؛ مؤلف كتاب "موسيقى الثورة: سياسات الموسيقى في إيران"، في وصفه لشجريان: “إنه أهم شخصية ثقافية إيرانية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة؛ لقد كان شخصية سامية عاشت في فنه. وقد حظي باحترام كبير أيضاً؛ لأنه قال الحقيقة في وجه السلطة”.
وقد قال عام 2016: “لا أريد الدخول في أحزاب سياسية أو في السياسة بشكل عام، كل ما أريده أن أكون فناناً وأن أقول الحقيقة للناس”.
وختاما ما أجمل ما قال فیه مصطفى سعيد بعید رحیله:
طلبتَ مقام العشق والخلود فيه، لا فُتِنّا بعدك، وألحقنا بك فسمعنا وطربنا من النغم ما شاء لنا مقام العشق. سلامٌ على نفسك الباقية ما بقيَت في الكون نغمة.
الآراء