کم من البشر یموتون وبموتهم لا یبقی أثر منهم!
وکم من الرجال لایُعرفون ولایعرف قدرُهم ومکانتهم إلی أن یموتوا! وقلیل جداً من یموت ویخلد ذکره بعد موته والذی بموته ینفث روحا جدیدة فی جسم أمةٍ میتةٍ!
إن الصحوة الإسلامیة المعاصرة رأت فی جموعها دعاة ومبلغین کثیرین وإن الکردستان أیضاً قد قدمت إلی العالم الإسلامی علماء أجلاء. ولکن العلماء والدعاة المبدعین یُعدّون علی الأصابع؛ الإبداع الذی یقوی ویؤثر فی الصحوة الإسلامیة.
إن الأستاذ الشهید ناصر السبحانی-علیه رحمة الله- من الطلائع والرواد الذین باتوا مجهولین إلی لحظة العروج إلی عالم الأبدیة وإنه لم یُقدّر قدره ولم تعرف مکانته ویصدق علیه قول القدماء:
«نحن الأکراد، عُبّاد الأموات ولانعرف قدرَ الأحیاء».
ولئن کانت عامة الناس معذورین وعاجزین فی معرفة جوهرة مثله –لعدم معرفتهم بالجواهر- إلا أن صنفین آخرین مسئولان فی هذه الدنیا وفی الآخرة! 
-الصنف الأول: هم الأقرباء والأصدقاء والذین یشارکون الأستاذ فی الفکر وصاحَبوه.
-الصنف الثانی: المحققون والمستجوبون له أیام السجن، الذین رافقوا الأستاذ أکثر من ثلاثمئة یوم ولیلة وعرفوا حقیقة شخصیته وماهیة فکره ! وعرفوه عن کثب؛ ولربما صارت هذه «المعرفة» سبب موته... لکن الموت فی ثقافة الذین ینظرون إلی «الوجود والعدم»، و «البقاء والفناء»، و «الحیاة والموت»  نظرةً مادیة!
لقد التقیت بالأستاذ عام 1981م...فمن البدایة وبعد أن عرفت الأستاذ ورافقته وعایشته وسافرت معه أسفاراً عدیدة وتبادلنا معاً کثیراً من الموضوعات الفکریة والسیاسیة والاجتماعیة (وکنت قد التقیت بکثیر من الأساتذة والمفکرین والدعاة والباحثین)؛ تیقنت أن أمثال الأستاذ السبحانی فی هذا العصر نادر جدا حیث أننی لم أرَ مثله فی أی مکان.
إننی لا أنکر أنه یمکن أن یکون هناک کُتّابٌ أکثر منه براعةً ولکن من حیث الکم، کما لا أنکر أن یوجد علماء أعلم منه ولکن حسب المعابیر المتداولة العامة؛ وکذلک یمکن أن یوجد من هو أکثر منه قدرةً علی البیان وأعلم منه بالتاریخ والسیاسة والمنطق و... إننی لا أنکر أیّاً من هذه الاحتمالات ولکن قلّ من استطاع أن یفهم القرآن ومدلولاته کما فهمه هو، ویقدم قراءة جدیدة یتناسب هذا العصر ویوافق المعاییر والمفاهیم القرآنیة الأساسیة الموجودة؛ وقلّ من أبدع مثل الأستاذ فی العلوم القرآنیة وعلوم الحدیث وأصول الفقه التی هی الأساس فی فهم القرآن والسنة والفقه.
والله تعالی قد زیّنه بتقوی وإشفاق العارفین،‌ ومنطق و عقل الحکماء والفلاسفة، وذاکرة العلماء النشطة الدقیقة، وفصاحة قلم الباحثین وقوتهم الأکادیمیة، وزیّنه بتفانی القادة والمجاهدین، وإیثار وشجاعة الدعاة، وجرأة وإقدام المجددین، ودقة وجمال الشعراء والفنانین و... صفات وخصائل امتاز الأستاذ بها من بین رکب العلماء والدعاة المعاصرین.
نعم إنه لایکفی للدعاة والمجددین والمصلحین تجییش أحاسیس وضمائر البیئة الدینیة والتعمق فی الکتب والمسائل العلمیة والعقلیة البحتة،  متغاضیاً واقع العصر والبیئة الاجتماعیة. وقد تفّرد الأستاذ بأن استطاع أن ینوّر العقل بقوة العاطفة ویُضاعف قدرة الحرکة الإسلامیة بقوة العبودیة ومعرفة الله ویُبدّد الظلمات بمصابیح العلم والمعرفة.
وقد عمل الأستاذ السبحانی کل هذا فی عمره القصیر (39 عاماً) وفی الظرف الزمانی والمکانی الذینِ کان یعیش فیهما. علینا أن لا ننسَ بأنّ أزمة تاریخ الإسلام،‌ کانت أزمة الفکر الإسلامی وأزمةَ الجمود وتعطیل العقل والتجدید وقراءة النصوص من جدید؛ أزمة یسمیها البعض بـ : «إغلاق باب الاجتهاد» ولکن کانت أعمق وأخطر من إغلاق باب الإجتهاد.
وقد بیّنَ الأستاذ الشهید بعلمه وجهوده العلمیة بأنّ لیس فی الاجتهاد ثوابت وأن عظمة الإسلام تکمن فی أن قواعد کل العلوم الإسلامیة (القرآن والسنة والفقه) یمکن أن تکون لها قراءة جدیدة کما یمکن أن تُضاف إلی ثمرات جهود العلماء الإسلامیین السابقین، موضوعاتٌ جدیدة أخری.
إن الله تعالی یعلم متی وأین یوفر الأرضیة المناسبة لظهور حاملی رسالة التجدید والإصلاح... ظهرالأستاذ معاصراً لثورة الشعب الإیرانی الذی کان قد ضاق ذرعاً من ظلم «الشاه» وانتفض بأمواج متدفقة خلقت تیاراً وعالماً جدیدین؛ خلقت العالم الجدید الذی کان خطابه الأصلی والغالب هو الإسلام وحاکمیته؛ عالم الصحوة والظهور الفجائی «لجسد الصحوة الإسلامیة» وصوت «الوجود» و «التحدی» و «الحیاة الجدیدة» و «الانتفاضة».
إن مجئ الأستاذ کان فی منطقة جغرافیة محدودة وإن قیامه کان بمنطقة مشلولة؛ و کان وقوفه علی قاعدة متزلزلة، وعندما نطق،‌ نطق علی مشهد أصمّ وأبکم؛ وعندما ارتحل،‌ ارتحل فی دنیا صماءَ بکماءَ... ولکنه بعرقه المنصّب من تعبه ودموع سهراته اللیالی و بآثاره وکتاباته وفی النهایة بدمه الطاهر، وسَّع الجغرافیا الذی کان یعیش فیه وحرّک المنطقة المشلولة وبدّل صمَمَ مشهد الحیاة والعالم اللذین کان یعیش فیهما بصوت سمفونی امتزج بالصحوة التی امتدت إلی شاطئ الأحلام دون وقفة حتی وصول أمواج الآمال والهموم إلی الشاطئ الذی لا یکلّ ولا یملّ.
نعم إن الأستاذ الشهید قد فتح فی ذلک الجغرافیا المحدود القاسی، نافذة جدیدة علی الدراسة والنقد والبحث و إبداع المفاهیم والقراءة العصریة للتراث التاریخی وربطَ بین السنة والحداثة وبلورة خصائص الواقعیة للشریعة الإسلامیة ، وقد تکفّل فی نفس الوقت فی تلک الحقبة الزمنیة قیادة هذه النهضة وستطول أعوام حتی یدرک الناس مدی هذا الواقع، ربما فی عصر آخر وذلک بعد دارسة جامعة لآثاره وکتاباته لیروا ویدرکوا برائعه و روائعه ....إنه بکل ثقة یمکن أن نقول:
بأن الأستاذ الشهید ناصر السبحانی کان مدرسةً ونهضةً علمیةً وقاعدة للتغییر الفکری ومعیناً للبحث ومرآةً لفهم القرآن الأدق ، کما أنه کان لوحده نهضة هادئة ضد التقلید والخرافة والبدعة والجهالة.
وهنا یطرح سؤال وهو: ماذا فعل الأستاذ السبحانی فی صعید القضایا السیاسیة والوطنیة‌ وقضیة الأکراد بالذات؟
إن الأستاذ الشهید کان أنموذجاً من أولئک المفکرین الذین أثبتوا بالدلائل القرآنیة أن «تحریر شعب وضمان حریاته» من مهام الداعیة المسلم الأصلیة ولایمکن التفریق بین المهام الدینیة والأهلیة والوطنیة، وکان یعتقد أن الدین هو قانون الله وشریعته؛ فإن لم تُطرح فروع المسائل فیه فإن المبادئ والقواعد الأساسیة للحیاة الإنسانیة قد بُیِّنت فیه. فبناءً علی ذلک فإنّ الأستاذ الشهید ألقی محاضرة فی مؤتمر «رابطة الکرد الإسلامیة» فی إسطنبول عام 1988م وبیّن فی هذا الصعید قضایا مهمةً جداً وقد أورد فیها آیة 13 من سورة الحجرات: «وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا...»قائلا :فالکل یمتاز بخصائصه الخاصة به الداخلیة والخارجیة وبها یمیز عن الآخرین وله فی جسم المجتمع الإنسانی دور یمیّزه ، وکذلک الآیة 22من سورة الروم والتی یقول فیها عز من قائل: «و من آیاته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتکم وألوانکم إنّ في ذلک لآیات للعالمین»،‌ فقد بیَّن الأستاذ أن وجود الشعوب والأمم المختلفة –کلٌ بخصائصه اللغویة والقبلیة- آیة من آیات الخالق وأمر إلهی منه جل وعلا،‌ وفی نظام الولایات الذی کان یُتَّبَعُ فی بدء الخلافة الإسلامیة –وکان أرقی بکثیر من النظام الفدرالي الحالی- الحدّ الأدنی الذي  یضمن للشعوب حقوقَهم الأساسیة .و فی صعید القضایا الوطنیة، أکّد الأستاذ الشهید أن رسالة الأنبیاء الإلهیة کانت نجاة الشعوب وتحریرهم ولذلک تری في القرآن الکریم  نبیّ کل قوم وأمة  یخاطب  قومه  ب: «یا قومی!» وکان الأستاذ غالباً ما یشیر فی هذا الصعید إلی قصة سیدنا موسی-علیه السلام- حین یأس من إسلام فرعون فطلب منه أن یترک بنی‌إسرائیل المظلومین فیقول: «...فأرسل معی بنی‌إسرائیل...» أی أطلقهم من غل الأسر والعبودیة وسلِّمهم إلیَّ حتی یرتحلوا من أرضک ویهاجروا إلی أرض أخری ویشتغلوا بعبادة الله وحده .[اعراف:105]
فإن لم تک مستعداً لقبول الهدایة ولا تترک بنی‌إسرائیل لیطمئنوا فی ظل الهدایة الإلهیة فدَعهم وأرسلهم معی حتی أحررهم وأنقذهم.
وقد استدل الأستاذ الشهید بآیة: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه...»[إبراهیم:4] وآیة: «و إن من أمة إلا خلا فیها نذیر»[فاطر:24]؛ وبیَّن أن الشعب الکردي من الشعوب والأمم الأصلیین وإنهم «أمة» بمعنی الکلمة،‌ وقد کان لهم رسول منهم له رسالته السماویة.
ولذلک تراهم یعتنقون الإسلام فی القرن السادس المیلادی علی الرغم من ظلم الساسانیین المتزاید وبطشهم ومنعهم من الرسالة النبویة-صلی الله علیه وسلم. فبعد ظهور شمس الإسلام الساطعة فی مختلف أنحاء کردستان بدأ الأکراد یعتنقون الدین الإسلامی وما منعهم من ذلک وجود العراقیل والضغوطات التی کانت تمارسها دولة الساسانیین الغاشمة ضدهم.
وکذلک عندما کان الأستاذ الشهید یتکلم عن حق استقلال الشعوب وحق تقریر المصیر وکان یعتقد أن وجود الألوان والشعوب واللغات، آیة من آیات القدرة الإلهیة؛ لم یکن بمقدور عامة الناس الاقتراب من هذه المواضیع،‌ حتی المفکرون والسیاسیون الإسلامیون کانوا یبتعدون عن مثل هذه القضایا . وعندما کان الأستاذ یقوم بتفسیر و تحلیل مفاهیم «الشعوب والقبائل والتعارف» وکذلک «الألسن والألوان» معتبرا کلاً من هذه الکلمات آیة، کانت دراسته وتفسیره للکلم غریبة غرابةَ التحلیلات غیرالحقیقیة فی هذه الأیام.
وإن من إحدی روائع الأستاذ، رسالة تحت عنوان  «رسالة الآلام من أرض البلایا؛ أرض کردستان» والتی کتبها الأستاذ بعد قصف مدینة حلبجة الکیمیاوی الذی قامت به الحکومة البعثیة فی العراق، ویخاطب الأستاذ فیها نبینا الحبیب-صلی الله علیه وسلم- لیقدمها ویقرأها النبی-صلی الله علیه وسلم- فی حفل أولي العزم من الرسل ویُوصل صرخة مظلمة الشعب الکردی إلی الله الحق. وقد وصف أهل الفن أن هذه الرسالة فی أوج البلاغة والإیجاز حیث لا یمکن أن تضیف إلیها أو تنقص منها حرفاً واحداً.
ویمکننا أن ندعی بکل ثقة أن الأستاذ الشهید قد سبق زمانه وعصره فی کثیر من الأصعدة وقد استطاع بعمره القصیر المبارک أن یقدم بکل نجاح علوم ونظراته واجتهاداته إلی تلامیذه ورفاقه ویضبطها، وهذه سمة نجاحه وتوفیق من الله تعالی .
«من المؤمنین رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه فمنهم من قضی نحبه و منهم من ینتظر و ما بدلوا تبدیلا»[الأحزاب :23]
یُنزلون کل لیلة نجماً إلی الأرض ولا زالت السماء ملیئة بالنجوم
کاتب المقال: السیاسی الإسلامی ومن تلامذة ورفاق الأستاذ وعضو برلمان إقلیم کردستان العراق.