كان نبيُّنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته وصفاته المثَلَ الأَكمل في سماحة النفس ولين الجانب، والله عز وجل وصَفه بقوله: {فَبِما رَحْمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنتَ فَظّاً غليظَ القَلْبِ لَانْفَضّوا من حَوْلِكَ} آل عمران – 159. وقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومٍ أولي بأسٍ، تَغْلب على نفوسهم خُشونةُ الطِّباع، وغِلظةُ الأَنفس، وفظاظَةُ المقال، وشراسةُ الفِعال. وقد تمكّن النبي صلى الله عليه وسلم بِرقّة نفسه ولُطْفِ طَبْعه من استيعاب أصحابه بَدْوِهم وحاضِرهَم، وأَمكنَه ذلك من التّربُّع على عَرش القلوب، وناصيةِ الصّدور.. وبلغت محبتُهم إياه ما لا ينازعُها أَيّ حُبِّ آخر، وكيف وقد نَدَبَهم إلى حُبِّه بقوله: «والذي نفسي بيده لا يُؤْمنُ أحَدُكم حتى أكونَ أَحبَّ إليه من والدِه وولدِه والنّاسِ أجمعين» رواه البخاري.

وإن مما يَهْدي نفوس المؤمنين إلى الاتّسام بالسّماحة واليُسر في أقوالهم وسلوكهم ما تمتاز به الشريعةُ من السّهولة واليُسر في الأحكام والقوانين؛ فالإسلام دينُ الفِطرة، تنسابُ أحكامُه وتعاليمُه في النفوس انْسياب المياه الرَّقراقة في الجداول المُنْسابة.. فأحكامُ الشريعة توافقُ الفِطرةَ البشريّة ولا تصادِمُها، واللهُ تعالى يحكمُ لا مُعَقِّبَ لحكمهِ ويقول: {فِطْرةَ اللهِ التي فَطَر الناسَ عليها لا تبديلَ لخلق الله، ذلك الدّين القَيّم ولكنَ أكثر الناس لا يعلمون} الروم – 30.

وقد نطقت النصوص الشرعية بيُسر الأحكام وموافقتها للفِطرة في قول الله تعالى: {ولقد يَسَّرْنا القُرآنَ للذِّكْرِ فَهل مِنْ مُدَّكِرْ} القمر-17

إن الأصل في قلوب المؤمنين المتآخين أن تَمتلئَ حُبّاً وسماحةً، فإذا أرادت الضَّغائنُ أن تنزلَ بساحَتِهم لم تجد لها مكاناً، وانقلبت طريدةً مَهينة، فلا يؤذَنُ لها بالدخول إلا عابرةَ سبيل، أو حالّةً مُرْتَحِلة! وإذا كانت النفوس كباراً فإنها لا تعرف الحِقد ولا الحسَد، وكيف تعرفهما القلوب الكبيرة وهما آيةُ صِغَرِ النفس، ولُؤْمِ الطَّبْع، وسفولِ المقام، والكريمُ من بَعُدت المساوفُ بينَه وبين هذه الخصال الوضيعة، يقول الشاعر:

      لا يَحْمِلُ الحِقْدَ من تَعْلو به الرُّتَبُ    ولا ينالُ العلا من طَبْعُه الغضبُ

والناسُ مهما اختلفوا في تفسير السَّعادة فإنهم لا يختلفون في كَوْن رأسِ السعادة امتلاكُ قلبٍ ساكنٍ مطمئنّ، ونفسٍ تَتَّسم باللُّطف والوداعة.

ومن حادَ عن خُلُق السَّماحة، واتَّصَفَ بالغِلْظة واللَّدَد، حَكم على نفسه بالفشَل في دعوته، والفسادِ في خُلُقه وطَبْعِه.

إن عامَّة المسلمين يُدْركون أن دينَ الإسلام هو دينُ اليُسر والسُّهولة والسَّماحة، وأن الشارع قد راعى في الشريعة ما تقتضيه النفوسُ، وما تتحمَّلُه الهِمَم، فجعل تكاليفَه غيرَ زائدةٍ على طاقتهم، وقد رفع الله برحمته الآصار والأغلال التي ضربها الله على السابقين من الأمم، جَزاءَ ظُلْمِهم وعِصيانِهم. ولقد جاء في التنـزيل العزيز قول الله: {يُحِلُّ لهم الطَّيباتِ ويُحَرّمُ عليهم الخَبائثَ ويَضَعُ عنهم إصْرَهم والأَغْلال التي كانت عليهم} الأعراف – 157.

فليَسْتَمْسِك بعُرى السَّماحة كلُّ بائعٍ وشارٍ، وكلَّ متقاضٍ وقاضٍ، وكُلّ خصيم ومُتخاصم، ولْيَلْبَسوا رداءَها، وليتحلَّوا بزينتها. أما من يريد أن يأخذ ولا يعطي، ويسأل الحِلم ويُنْفِق الجَهل، ويجنح إلى العَسْف، فإنه أنانيُّ النفس، منكوسُ القلب، لا يُرْجَى له من الناس العفو واللطف.