وضع القرآن الكريم قواعد واضحة للعائلة البشرية, وأعلن في صورة واضحة لا تحتمل اللبس أو التأويل أن الناس خلقوا جميعا من نفس واحدة, مما يعني وحدة الأصل الإنساني.
فقال تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1], وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الناس بنو آدم وآدم من تراب (سنن أبي داود 331/4, والترمذي 735/5), لذلك فالناس جميعا في نظر الإسلام لهم الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز, فالإنسان مكرم في نظر القرآن الكريم, دون النظر إلى دينه أو لونه أو جنسه, قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70], ولا يصح أن يكون اختلاف البشر في ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم سببا في التنافر والعداوة, بل إنه يجب أن يكون داعيا للتعارف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة كما أخبرنا الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13], وميزان التفاضل الذي وضعه القرآن الكريم إنما هو فيما يقدمه الإنسان المؤمن من خير للإنسانية كلها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.
لكل ذلك نظر الإسلام إلى غير المسلمين, خاصة أهل الكتاب, نظرة تكامل وتعاون, وبالأخص في المصالح المشتركة على قاعدة من القيم والأخلاق التي دعت إليها كل الأديان, بل وتلك التي حظيت بالقبول والرضا من بني الإنسان.
ودستور الإسلام في التعامل مع غير المسلمين يتلخص في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8], ومن هذه الآية وغيرها حدد الإسلام الأصول التي يجب مراعاتها عند التعامل مع الآخر, وقوام تلك الأصول هو التسامح الذي هو وثيق الصلة بالعفو الذي يعني التجاوز عن الذنب وإسداء الإحسان وفعل الخيرات.
ويرجع أساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم, ومن أهم تلك الحقائق: وحدة الأصل البشري, تكريم الإنسان, الاختلاف في الدين أمر قدري بمشيئة الله تعالى, المسلم غير مكلف بمحاسبة غيره من المخالفين له, فضلا عن إكراهه وجبره لمخالفة دينه, حث الإسلام على العدل الذي به ينتظم الوجود الإنساني.
ويتعامل الإسلام مع غير المسلمين على مستويين, الأول: الفرد أو الجماعة غير المسلمة في المجتمع المسلم, والمستوى الثاني: الجماعة غير المسلمة المتعاملة مع الدول الإسلامية.
والإسلام ضرب أروع الأمثلة في التعامل مع غير المسلمين في كلا المستويين, وكان نموذجا يحتذى به في التعامل مع الآخر, سواء في نظامه التشريعي أو النظري, أو في نظامه التطبيقي, وهو ما يشهد به التاريخ الإنساني عبر القرون.
فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم اهتماما فائقا بإظهار الرحمة والتسامح والعفو مع غير المسلمين, وحذر أشد التحذير من ظلم واحد منهم, فقال: من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته, أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه, فأنا حجيجه يوم القيامة (سنن أبي داود 170/3, والترمذي 336/3).
ولما توسعت رقعة الدولة الإسلامية زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية, وبخاصة في نجران, فما كان منه إلا أن أقام معهم المعاهدات التي تؤمن لهم حرية المعتقد, وممارسة الشعائر, وصون أماكن العبادة, بالإضافة إلى ضمان حرية الفكر والتعلم والعمل, فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران: ولنجران وحاشيتهم جوار الله, وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم, وملتهم, وأرضهم, وأموالهم, وغائبهم, وشاهدهم, وبيعهم, وصلواتهم, لا يغيرون أسقفا عن أسقفيته, ولا راهبا عن رهبانيته, ولا واقفا عن وقفانيته, وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا (دلائل النبوة للبيهقي 389/5).
وفي عهد ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب يبين أن المسلمين صاروا على سنة نبيهم حيث عاهد أهل إيلياء (القدس) فنص على حريتهم الدينية, وحرمة معابدهم وشعائرهم فقال: لا تسكن كنائسهم, ولا تهدم, ولا ينتقص منها, ولا من حيزها, ولا من صليبها, ولا من شيء من أموالهم, ولا يكرهون على دينهم, ولا يضار أحد منهم, ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود (تاريخ الطبري 449/2).
وهكذا كان تعامل المسلمين مع غيرهم عبر التاريخ.
ولأقباط مصر كبير الشأن والمنزلة عند كل المسلمين عامة, ومسلمي مصر خاصة, فقد روت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته فقال: الله الله في قبط مصر, فإنكم ستظهرون عليهم, ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله (الطبراني في الكبير 265/23), وقال في حديث آخر: إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط, فاستوصوا بأهلها خيرا, فإن لهم ذمة ورحما (صحيح مسلم1970/4).
كل هذه النصوص الكثيرة المذكورة وغيرها الكثير لم يذكر لعدم اتساع المقام توضح سماحة الإسلام والمسلمين في تراثهم وفكرهم ونظرياتهم تجاه غير المسلمين.
الآراء