لا شك أن استبصار المستقبل أو استشرافه هو من قبيل النظر في الآفاق الذي أمر الله تعالى به عباده تخطيطًا لما يستقبلهم من عاديات الزمن وتحسبًا لأزماته وترقبًا لمفاجآته، ولا يدخل هذا التخطيط في مسمى الكهانة(1) ولا الاستقسام(2) ولا الرجم بالغيب(3) ما دام لا يتوسل بما نهى الشرع عن تعاطيه من ضروب السحر والشعوذة والخط(4).
لقد رفض الإسلام استشراف الغيب من طريق غير مشروع يدعي فيه المستشرف إمكان معرفته بما استقل الله تعالى بعلمه قبل وقوعه بالإطلاق، لكنه لم يرفض ما جاء من طريق الدراسة العلمية التجريبية أو الميدانية «فهذه الدنيا قائمة على سنن، منها ما يسير به الكون ومنها ما يسير به التاريخ، سنن في الطبيعة وسنن في المجتمع، والذي يتعرف إلى هذه السنن يستطيع أن يتنبأ بالنتائج إذا وجدت أسبابها دون أن يكون ذلك علمًا بالغيب أو مزاحمة لله في علمه، فالله الذي أذن للإنسان أن يتعرف على الكون وعلى نفسه، هو الذي أذن له أن يتعرف على حركته ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، وتبقى الفروق ثابتة بين علم الله المحيط وعلم الإنسان المحدود، بين علم الله المطلق وعلم الإنسان النسبي»(5).
والمسلمون اليوم تأسيًا بما علمهم رسول الله " صلى الله عليه وسلم" في سيرته العطرة مدعوون للأخذ بأسباب استشراف المستقبل بما ترشحه وسائل العصر الحديث من إحصائيات وحسابات ودراسات مدققة في اتجاه الرقي بالعمل الإسلامي وحفظه مما يمكن أن يأتي عليه بالهدم والنقض أو العرقلة والتعطيل.
يقول الله تعالى: " قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي " (يوسف: 108)، (6) يبين لنبيه " صلى الله عليه وسلم" كيف يكون عرض الدعوة في وضوحها وقوتها وجاذبيتها، وتركيزنا في هذا الموضع على «البصيرة» من البصر، ومادة (ب ص ر) في اللغة مدارها على معنى: العلم بالشيء، يقال فلان بصير بالشيء: أي عليم به، وقيل البصيرة: البرهان، وهو من الوضوح. ولعل من معاني الدعوة على بصيرة مفهوم الاستبصار، وهو بالمناسبة من مشتقات نفس الجذر (بصر)، ويأتي بمعنى النظر البعيد الأفق نحو المستقبل، والدعوة على بصيرة تحتاج إلى فقه تخطيط لما يحتاجه المخاطبون المستهدفون بالدعوة، وإلى فقه استشراف لما تميل إليه أفئدتهم وعقولهم ومشاعرهم حتى يحسن الدخول عليهم من أوسع الأبواب وأصلحها انطلاقًا من فقه نفوسهم وما يتطلعون إليه.
إن الدارس لسيرة النبي " صلى الله عليه وسلم" يجد أن خطواته المباركة في كل مرحلة من المراحل الدعوية تسير وفق خطة محكمة مستبصرة تستهدف تنمية فعالية(7) وكفاءة(8) العمل والعاملين من الصحابة معه، وذلك لما يتطلبه النجاح والنمو السريع لأي نشاط من تضافر الفعالية والكفاءة العاليتان.
والعمل الإسلامي اليوم يتطلب أن يتجاوز العقل المسلم واقعه القريب إلى استشراف المستقبل البعيد، وأن تكون للمسلمين دراسات مستقبلية يتوقعون فيها ما يمكن حدوثه أو يحصل تغيره، من باب النظر المصلحي(9)، ثم وضع برامجهم الإصلاحية والتنموية مراعين ما يلزم لذلك من احتياطات واستعدادات تكون سياجًا آمنًا من مفاجآت المستقبل ومتغيرات الزمان.
وليس في ذلك ادعاء للغيب أو تجاوز للشرع، بل إن ذلك معتبر ضمن ما سماه بعض الفقهاء بقاعدة اعتبار المآلات(10)، إذ النواميس التي وضعها الله- عز وجل- في الأنفس والمجتمعات والكون ثابتة لا تتغير ومحكمة لا تتبدل إلا إذا شاء الله- عز وجل- ذلك، فإذا اكتشف العقل المسلم نظام هذه النواميس والسنن، وسار ضمن قانونها العام فإنه لن يعدم خيرًا، إذ قد استفرغ الوسع في تحقيق أغراض الخير ودفع معاول الشر بحسب المتاح والممكن.
وإذا كان واقع المسلمين المتخلف مع ثقل ما يحملونه من ركام التأخر التاريخي يعطل مسيرتهم نحو التقدم، فإنهم اليوم لا يعطون لاستشراف المستقبل كبير اهتمام مع ضرورته في وقتنا المعاصر. فإننا نجد كثيرًا من دول العالم الغربي, ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك الأمر اهتمامًا بالغًا جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة وزارية في حكومتها للاهتمام بالمستقبل منذ عام 1973م، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ستمائة مؤسسة لدراسة المستقبل(11)؛ إلى غيرها من مؤسسات الاستشراف الكثيرة في الغرب والشرق الأسيوي في حين يفتقد عالمنا العربي والإسلامي إلى مثلها، وهو يحمل الكثير من الهموم والمشكلات المتجذرة التي تستلزم حلولًا بعيدة وعلاجات طويلة الأمد.
الهوامش
1- سأل معاوية السلمي النبي " صلى الله عليه وسلم" عن الكهان، فقال له: لا تأتوهم، رواه مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم2227.
2 - يقول الرسول " صلى الله عليه وسلم" : «لن ينال الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرًا»، رواه الطبراني عن أبي الدرداء، ورجاله ثقات.
3 - يقول الرسول " صلى الله عليه وسلم" : «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد»، صححه النووي في رياض الصالحين،4/514. وأخرجه أحمد (1/311، رقم 2841).
4 - قال النبي " صلى الله عليه وسلم" : «العيافة والطيرة والطرق من الجبت»، (ابن سعد، وأحمد، والطبراني عن قطن بن قبيصة عن أبيه، قال المناوي: وإسناد أحمد جيد).
5 - الفكر الإسلامي والمستقبل: عزالدين توفيق، ضمن مجلة البيان، ع84، س9، 1995، ص94.
6 - يوسف: 108.
7 - الفعالية Efficiency هي عمل الأشياء بطريقة صحيحة, وذلك من خلال إدارة ممتازة تتعامل بإتقان مع نقاط القوة والضعف الموجودة في المجتمع أو المؤسسة. فالفعالية هي عمل الأشياء بصورة صحيحة أي إتقان العمل، وهي ما نسميه في الحديث بـ(الإحسان).
8 - الكفاءة Effectiveness هي عمل الأشياء الصحيحة من خلال تعامل واع وحكيم مع الفرص المتاحة والتهديدات الموجودة في البيئة الخارجية.
9 - ذلك أن الشريعة في الأصل جاءت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم كما قرر الشاطبي في الموافقات،2/9.
10 - يقول الشاطبي: «النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة, وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام، أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك, فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة» الموافقات،5/187-188.
11 - يراجع: مدخل إلى التنمية المتكاملة، عبدالكريم بكار، ص155.
الآراء