يُعد الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي ـ رحمه الله ـ إحدى صرخات الحرية في وجه الظالمين المستبدين؛ الذين فضحهم في كتابه " طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد" حتى انتهى أمره بتصفيته جسديا على أيديهم الآثمة.
لذا أجرينا الحوار التالي معه و نستهله بتوصيف جامع للمستبد الظالم كي نحذره، فقال:
ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي؛ يتصرف في أموال اليتامى و أنفسهم كما يهوى؛ ما داموا ضعافا قاصرين، فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.
أيعني كلامك هذا أن الرعية على عهد المستبد ستكون جاهلة؟
أجل؛ إذ لا يخفى على المستبد ـ مهما كان غبياً ـ أن لا استعباد و لا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء، تخبط في ظلامة جهل و تيه عمياء؛ فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، و لو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل.
ولماذا إلى هذا الحد يكره المستبد وعي الشعب؟
يمقت المستبد وعي الشعب؛ لأنه كشَّاف وضَّاح للخير فضَّاح للشر؛ يُوِلِّد في النفوس حرارة و في الرؤوس شهامة، و المتأمل في حالة كل رئيس و مرؤوس يرى كل سلطة تقوى و تضعف بنسبة نقصان وعي المرؤوس و زيادته.
كما ترتعد فرائص المستبد من كل وعي يكبر في النفوس و يوسِّع العقول و يعرف به كل مواطن حقوقه و كم هو مغبون فيها؟ و كيف الطلب؟ و كيف النوال؟ و كيف الحفظ؟
و أخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذا الوعي المندفعين منهم لتوعية الناس.
أتعني أن الحرب الحقيقية هي حرب الوعي؟
نعم؛ لأن بين الاستبداد و بين الوعي حربا دائمة و طِرَادا مستمرا؛ يسعى العلماء في تنوير العقول، و يجتهد المستبد في إطفاء نورها، و الطرفان يتجاذبان العوام.
و مَنْ هم العوام؟
هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، و إذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، و متى قالوا فعلوا.
و لماذا العوام خاصة؟
لأنهم هم قوة المستبد و قوته؛ بهم يصول و يطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، و يهينهم فيثنون على رفعته، و يُغرى بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، و إذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، و إذا قتل منهم و لم يمثل يعتبرونه رحيما، و يسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، و إن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.
و الحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل و الغباوة.
و ماذا يحدث لو ارتفع الجهل ـ و تنور العقل؟
إذا ارتفع الجهل و تنور العقل زال الخوف، و أصبح الناس لا ينقادون ـ طبعا ـ لغير منافعهم؛ كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، و عند ذلك لابد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال.
أيمكن أن يحدث هذا؟
نعم؛ فكم أجبرت الأمم بترقيها المستبد اللئيم على الترقي معها و الانقلاب ـ رغم طبعه ـ إلى وكيل أمين يهاب الحساب، و رئيس عادل يخشى الانتقام، و أب حكيم يتلذذ بالتحابب، و حينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية، حياة رخاء و نماء، حياة عز و سعادة.
و هل من وصية لشعب مصر تختم بها حديثك؟
أقول لهم: إن الحقوق لا تُعطى منة من حاكم مستبد أو من مستعمر؛ و إنما تُنال بالإعداد و التحضير لمواجهتم؛ فالعزة و المجد لا يُنالان بالتمنيات و الترجي.
الآراء