إن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم  هو النعمة العظمى التي امتن الله بها علينا، فقد أخرجه الله تبارك وتعالى إلى البشرية هاديا وداعيا، بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا، فكشف به عن الناس الغمة، وأزاح به الظلمة، وأبان به الحق، وكشف به الشبهات، فلم يبق للناس على الله بعده حجة.

هذا النبي الكريم -زكاه ربه- تبارك وتعالى بأبلغ ألوان التزكية، فوصف خلقه بالعظيم، وقال ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ؛ فجاء بهذا الخلق العظيم؛ ليقود الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن سبل الشر إلى سبيل الخير، جاء ينادي عباد الله إلى الجنة، ويدعوهم إلى دار السلام، ففي حديث البخاري عن جابر بن عبد الله: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ عَصَى الله، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ».

فالله تبارك وتعالى بنى دارا سماها الجنة، عرضها السماوات والأرض، جعل فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأرسل محمدا يدعو الناس إلى هذه المأدبة، فمن استجاب دخل الجنة وتمتع بما فيها، ومن أبى فالنار مثواه وبئس المصير. ففي حديث البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَنْ يَأْبَى؟! قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».

حب رسول الله صلة الله عليه وسلم فريضة: وتوقيره وإجلاله وتعزيره فريضة }لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ{ وكلنا، بلا شك، يدّعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من تمام الإيمان؛ بل هو علامة فارقة بين الإيمان والنفاق، ولا يصح الإيمان إلا إذا قدَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسنا، وعلى أولادنا، وعلى آبائنا وأمهاتنا والناس أجمعين ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ وعند الشيخين من حديث أنس: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار». وعند البخاري من حديث أبي هريرة: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وفي حديث البخاري: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد عمر بن الخطاب t فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَالله لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ يَا عُمَرُ». أي: الآن صرت صادقا في حبك.

ومن أعظم ثمرات هذا الحب أن يحشر الإنسان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه القائل كما في البخاري: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟» قَالَ: حُبَّ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا، بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ.

من علامات الحب عند الصحابة: كانوا في حياته صلى الله عليه وسلم يعظِّمونه ويوقِّرونه، ولا يرفعون أبصارهم إليه هيبةً له.

فهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول فيما أخرجه أحمد: «فَوَالله إِنْ كُنْتُ لَأَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلَا رَاجَعْتُهُ بِمَا أُرِيدُ حَتَّى لَحِقَ بِالله عَزَّ وَجَلَّ حَيَاءً مِنْهُ.

-   وكانوا إذا جلسوا بين يديه لا يرفعون أصواتهم تأدبا معه، وامتثالًا لقول رب العزة تبارك وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم﴾

وأخرج البخاري أن أبا بكر وعمر اختلفا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فارتفعت أصواتهما، فلما نزلت هذه الآية، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ -وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ-  إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ، أي: يكلمه كما لو كان يكلم أحدا سرا، لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم يستفهمه عما قال.

وأخرج مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ اشْتَكَى؟» قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

-   وكانوا يتأدبون في خطابهم معه صلى الله عليه وسلم، لا يناديه أحد منهم فيقول: يا محمد، إلا إذا كان أعرابيا جافا لا يعرف أدب الخطاب معه؛ لأن الله أدبهم، فقال ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾أي لا تنادوه باسمه المجرد: يا محمد، ولا تنادوه من الشبابيك والنوافذ، بل من الأبواب ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ بل كانوا من شدة أدبهم معه، يطرقون الباب عليه بأظافرهم لا بأيديهم؛ إجلالا له، وكانوا إذا تحدث سكتوا كأن على رؤوسهم الطير! وكانوا إذا أمر سارعوا بتنفيذ أمره، حتى إن أحد المشركين لما جاء يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته في صلح الحديبية رجع إلى قريش يصف لهم حاله، فقال فيما أخرجه البخاري: أَيْ قَوْمِ وَالله لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَالله إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَالله إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ.

هكذا بلغت شدة حبهم له أن حتى إن أحد أصحابه أُخذ ليُصلب، فلما وضعوه على الصليب قالوا له: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدميه!

وفي دلائل النبوة للبيهقي أن امرأة من المسلمين خرجت في غزوة أحد بعد أن رجع الجيش، وكان قد قتل أبوها وأخوها وزوجها، فسألت: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قد قُتل أبوك، قالت: فما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالوا: هو بخير، قد قُتل أخوك، قالت: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالوا: هو بخير، قُتل زوجك، قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالوا: هو بخير، قالت: أرونيه أنظر إليه، فلما رأته سليما معافى، قالت: الحمد لله، كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله. أي: كل المصائب هينة ما دمت أنت بخير.

-   وبلغ من حبهم له أنهم كانوا يغارون إذا قيل فيه قول سوء، فهذان فتيان من فتيان الصحابة (ثلاثة عشر عاما)، هما معاذ ومعوَّذ ابنا عفراء، خرجا في غزوة بدر، ولا همّ لهم في الغزوة إلا قتل أبي جهل؛ لأنهما سمعا أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركاه حتى قتلاه، والقصة في البخاري.

والخلاصة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فافتدوه بأموالهم وأنفسهم، لم يتأخروا عن أمره، ولا عن تنفيذ ما أراد، ولم يدخروا دونه شيئا، فماذا نفعل نحن؟ ما علامات حبنا نحن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ذلك موضوع المقال التالي بإذن الله.