إنَّ موضوع «الخلافة» وما أثيرَ حوله من خلافات كبيرة تجعل من الأهميّة بمكان البحث في مضمونه، ومعرفة حقيقته، وتمييز غثِّه من سمينه، وترك غثِّه، وما علق به من أوهام بعض العلماء، فكانت السِّياسة حاضرة فاعلة، ممَّا دفع بعضهم إلى اتِّخاذ سبيل التَّأويل المتناسب مع ما تراه كلُّ طائفة منهم.
وأرى أنَّ مسألة «الخلافة» كانت سببًا في انقسام الأمَّة الإسلاميَّة بعد وفاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وما جرى من حوادث تاريخيَّة، لا تزال آثارها مستمرَّة إلى اليوم؛ بل إنَّ معظم ما تعيشه الأمَّة في عصرنا من ويلات ومصائب تكاد تعود إليها.
ونشير إلى أنَّ المقال لن يتطرَّق إلى خلافات «السنَّة» و«الشِّيعة» في مسألة «الخلافة»، وأحقيَّة كلّ منهما، أو البحث في شروط «الخليفة» التي بلغت «أحد عشر» شرطًا، وأدلَّة كلّ فريقٍ منهما في جعل جادة الصُّواب تميل إليه، بل قد نكتفي بما يحتاجه البحث من ذلك على سبيل الاستشهاد، وليس على سبيل البحث والنَّقد والتَّفنيد.
وإنَّما القصد من المقال التَّحقيق في أصل المسألة، ووجودها، وهل أصاب الفريقان في الذهاب إلى القول بها، والبحث في الأدلَّة التي زعموا أنَّها تشير إليها، ومن ثمَّ بنوا خلافاتهم عليها.
والحقُّ الذي نراه كما سيأتي بيانه، أنَّ المسألة في رمِّتها غير واقعة، ولا وجود لها؛ بل إنَّ القوم ابتدعوها في عصور متأخّرة، ثمَّ حاولَ كلُّ فريق منهم أن يثبت وجهة نظره من خلال إخضاع «القرآن الكريم» لتأويل يتناسب مع ما يذهب إليه، إو إيجاد الأحاديث ونسبتها إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، لتثبيت رأيه، وأنَّ «الخلافة» من نصيب من يراه كلٌّ منهم.
وعند العودة إلى ما اعتمدوه من أدلَّة وجدناهم قد اتَّخذوا من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}البقرة. 30، دليلا على ضرورة وجود «خليفةٍ» في الأرض يقوم بمهمة استلام زمام الأمور فيها، وتؤول العباد إليه في أمورها وشؤونها،. ثم حاول الفريقان إثبات أنَّ «الخلافة» مختصَّة بعد وفاة النَّبي صلى الله عليه وسلم بما يراه كلُّ فريق أنَّه صاحب الحقّ في ذلك، وعليه درجت الأمَّة في خلافها حتى يومنا الحاضر.
ومن ذلك ما نصَّ عليه القرطبيُّ بقوله: «هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة، يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمَّة، ولا بين الأئمَّة، إلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشَّريعة أصم، وكذلك من قال بقوله، واتَّبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنَّها غير واجبة في الدِّين، بل يسوغ ذلك، وأنَّ الأمَّة متى أقاموا حججهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصَّدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولَّى ذلك». ولا أدري سبب تحامل القرطبيُّ رحمه الله على الأصمّ حتى يردَّ عليه بمثل ما قال!
وللوقوف على حقيقة هذه المسألة وجوهرها، وهل يصحُّ أن تكون هذه الآية دليلا على قضيَّة الخلافة أم لا، رأينا أن نعود إلى البحث في تفسيرها، ومعرفة معانيها، من خلال ما تضمَّنته كتب التَّفاسير، وما عوَّلتْ عليه في ذلك، ومحاولة إيضاحها اعتمادًا على منهجنا في «تفسير القرآن بالقرآن».
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}:
اختلف أهل العلم من النّحويِّين واللُّغويِّين في إعراب «إذ» في مطلع الآية على أكثر من وجه، وكلٌّ له مبرِّراته وأسبابه، وكلُّ يُرد عليه، والإعراب مفضٍ إلى المعنى، لا أن يكون المعنى مطواعًا له.
الأول: ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى أنَّها زائدة، وردَّه الطَّبريّ بقوله: «والأمر في ذلك بخلاف ما قال، وذلك أن «إذ» حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدلّ على مجهول الوقت، وغير جائز إبطال حرف كان دليلاً على معنى الكلام». وكذلك ردَّ النَّحَّاس ما ذهبا إليه فقال: «هذا خطأ». وقال الرَّجَّاج: «هذا اجتراء من أبي عبيدة». وقال القرطبيّ: «ردَّه جميع المفسِّرين». أمَّا أبو حيّاَن فقد وصف هذا الوجه بأنه «ليس بشيء» بل زاد فقال: «وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النَّحو».
الثَاني: أنَّ «إذ» هنا بمعنى «قد»، والتّقدير: وقد قال ربُّك، وقال أبو حيَّان: «وهذا ليس بشيء».
الثَّالث: أنَّها متعلِّقة بفعل تقديره «اذكر»، وقال أبو حيَّان: «هذا ليس بشيء؛ لأنَّ فيه إخراجها عن بابها، وهو أنَّه لا يتصرَّف فيها بغير الظرفيَّة، أو بإضافة ظرف زمان إليها. إلا أنَّ الزمخشريّ في الكشاف، وابن عطية في المحرَّر قد أجازا ذلك».
الرَّابع: أنَّها ظرف، في موضع الرَّفع والتّقدير: ابتداء خلقكم، أو في موضع نصب، والتّقدير: وابتداء خلقكم إذ قال ربُّك. وهو مناسب لقوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا».
الخامس: إنَّ «إذ» متعلّقة بالفعل «قال» بعدها، وردَّه أبو حيَّان، معلِّلا ذلك بأنَّ «إذ» مضافة إلى الجملة بعدها، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
السَّادس: أنَّ «إذ» متعلِّقة بالفعل «أحياكم»، والتَّقدير: وهو الذي أحياكم إذ قال ربُّك، ووصفه أبو حيَّان بقوله: «ليس بشيء؛ لأنه حذفٌ بغير دليل، وفيه أنَّ الإحياء ليس واقعًا في وقت قول الملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصِّلة».
السَّابع: أنَّ «إذ» معمول لـ«خلقكم» والتَّقدير: اعبدوا ربَّكم الذي خلقكم إذ قال ربُّك، وعليه فإنَّ «الواو» حينئذٍ زائدة، ويكون قد وقع الفصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل.
وقد استطردتُ في ذكر هذه الوجوه  لنعلمَ حجمَ الاختلافات التي وقع فيها أهل العلم في تفسير كثير من آيات «القرآن الكريم»، والذي بنوا عليه فيما بعد خلافات فقهيَّة أدَّت إلى توسيع الفجوة بين الأمَّة، وراح كلُّ فريق يدعم رأيه بتأويله الذي يراه مناسبًا، فابتعدوا في جملتهم عن جادَّة الصَّواب، فوقعوا فيما أسميناه «تحريف القرآن بالتَّأويل».
إضافة إلى أنَّه يُردُّ على من يرى أنَّ قولهم لا يُردُّ، وأنَّ ما جاؤوا به هو الحقُّ الذي لا مِراء فيه، وهذا أبو حيَّان يقول بعد كل هذه الوجوه: «فهذه ثمانية أقوال ينبغي أنْ ينزَّه كتاب الله عنها»، ثم يذكر الوجه الذي يراه مناسبًا لسياق الآيات. وما أدري كيف جاز له أن يطلق مثل هذا الحكم والقائل ببعض هذه الوجوه من أكابر علماء اللُّغة والنَّحو والتَّفسير؟! بل إنَّه يجعل الوجه الذي ذهب إليه لم يسبقه أحدٌ فيه، فيقول: «فانظر إلى حسن هذا الوجه السَّهل الواضح، وكيف لم يوفَّق أكثر النَّاس إلى القول به، وارتبكوا في دهياء، وخبطوا خبط عشواء».
والمرجَّح عندنا عدم القول بزيادتها؛ لأنَّ ليس في «القرآن» ما ليس له معنى، ولا يجوز القول بالزِّيادة في أي حرف فيه، والله تعالى أعلم.
أمَّا قوله تعالى «جاعل» فذهبوا فيه مذهبين:
الأوَّل أنَّه بمعنى «خلق»، وهو حينئذ متعدٍ إلى مفعول واحد، وهو قول أبو روق، حيث يرى أنَّ كلَّ شيء ورد في القرآن بلفظ «جعل» فهو بمعنى «خلق»، وإليه ذهب الحسن وقتادة فيما يرويه الطَّبريّ والقرطبيُّ وابن كثير في تفاسيرهم.
الثَّاني: أنَّه بمعنى «صيَّر»، وهو حينئذٍ متعد إلى اثنين، وهو قول الفرَّاء والزَّمخشري والرَّازيّ، ورجَّح أبو حيَّان القول الأوَّل، حيث قال: «وكلا القولين سائغ، إلا أنَّ الأوَّل عندي أجود، لأنَّهم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، فظاهر هذا أنَّه مقابل لقوله: جاعل في الأرض خليفة، فلو كان «الجعل» على معنى التَّصيير لذكره ثانيًا».
والذي نراه أنَّه بمعنى «صيَّر» كما ذهب إليه الطبَّريّ، خلافًا لأبي حيَّان ومن وافقه، لأنَّ منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يدلَّنا عليه، فقد ورد في هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}البقرة124. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}آل عمران55. وقوله أيضًا: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }الكهف8. وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }القصص7. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}فاطر1.
وذهب قوم إلى أنَّ المقصود بـ«الأرض» «مكة المكرَّمة»، رواه الطَّبريّ عن عطاء عن ابن سابط مرفوعًا إلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «دحيت الأرض بمكَّة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أوَّل من طاف به، وهي الأرض التي قال الله: إنِّ جاعل في الأرض خليفة». وعلَّل ذلك بـ«أنَّ النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصَّالحون أتاها هو ومن معه، فعبدوا الله بها حتى يموتوا، فإنَّ قبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب، بين زمزم والركن والمقام». وقال بعضهم: لذلك سمِّيت «بكَّة»؛ لأنَّ الأرض بكت من تحتها.
وقد سرد أهل التَّفسير فيها أقوالا كثيرة، منها أنَّ «مكَّة» أوّل بيت وضع للنَّاس، وأنَّ الله خلق البيت قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء، فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أوَّل بيت بناه آدم في الأرض. وقيل: لما أهبط آدم إلى الأرض قالت له الملائكة: طاف حول هذا البيت، فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وغير ذلك من الأقاويل التي لا تثبت عند التَّحقيق، والله تعالى يقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}البقرة127. ويؤيِّده حديث أبي ذر، «قلت يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوَّل؟ قال: المسجد الحرام. قلتُ: ثمَّ أيّ؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة»، ممَّا يدلُّ على موافقته للآية السَّابقة من أنَّ «إبراهيم» عليه السَّلام أوَّل من بنى البيت الحرام. والله أعلم.
والرَّاجح أنَّ الأرض في ظاهرها مرادٌ بها العموم، وليستْ أرضًا خاصَّة بها؛ لأنَّ «القرآن الكريم» قد أورد هذه اللّفظة في جميع آياته بمعنى العموم وليس الخصوص، إضافة إلى أنَّه لو وجب القول بأنَّ المقصود «مكَّة» بعينها للزم على ذلك أن يكون «الخليفة» فيما بعد خاصًّا بها دون غيرها، وهو بعيد، والله تعالى أعلم.
 
أمَّا قوله تعالى «خليفة» فهي المراد في هذا البحث، والتَّعويل عليها؛ لأنَّ القوم جعلوا منها دليلا على ضرورة وجود «خليفة» في الأرض يقوم بأحكامه وتنفيذ وصاياه، وسنذكر ما قالوه في ذلك، ثم نبيِّين ما هو الرَّاجح فيها، والمقصود منها.
وكما أنَّهم درجوا على الاختلاف في التَّفسير وبناء الأحكام في معظم آيات «القرآن الكريم فكذلك اختلفوا في معنى «الخليفة»، فرأتْ جماعة من أهل العلم كالطَّبري والرَّازي والبغويّ أنَّ «الخليفة» بمعنى «خالف»، أي: يقوم مقام غيره في أمر من الأمور، بينما ذهب آخرون إلى أنَّها بمعنى «مفعول» أي: مخلف، كما في قولهم: ذبيحة، بمعنى: مذبوحة. وذكر هذين الاحتمالين القرطبي وأبو حيَّان.
والصَّحيح أنَّها بمعنى «مفعول»؛ لما ذكره المبرِّد في مقتضبه حيث قال: «وذلك أنَّ فعيلاً هو اسم الفاعل من الفعل الذي لا يتعدَّى، أي: الفعل اللازم الذي لا يحتاج مفعولا به، وعليه فإنَّ «فعيل» لا يكون اسم «فاعل» من الفعل المتعدِّي كـ«خَلَفَ»، ويمكن أن يُصاغ منه اسم «المفعول» بمعنى «فعيل»، و«خليفة» على وزن «فعيل» لكن بمعنى «مفعول». 
وتفرَّع عن اختلافهم في معنى «الخليفة» اختلافهم فيمن هو «الخالف»، فذهب بعضهم كابن مسعود وابن عبَّاس والسُّدّي وكثير من أهل العلم إلى أنَّه آدم عليه السَّلام، وأنَّه خليفة الله «في إمضاء أحكامه وأوامره؛ لأنَّه أوَّل رسول إلى الأرض»، وذكره القرطبيّ ومال إليه، وادَّعى أنَّ هذا القول هو مذهب جميع أهل التَّأويل.
ونلاحظ أنَّ القرطبيَّ رحمه الله قد حاول بقوله: وهو مذهب جميع أهل التَّأويل، أن يغضَّ الطَّرف عمَّن خالفهم في ذلك، أو يكون رأي المخالف لم يصله بعد، وهو بعيد، وما قاله ليس بصحيح.
 ثمَّ ذكر حديثًا لأبي ذرّ فقال: «قلت: يا رسول الله، أنبيًا كان مرسلا؟ قال: نعم. ويقال: لمن كان رسولاً ولم يكن في الأرض أحد؟ فيقال: كان رسولاً إلى ولده، وكانوا أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا»، ثم قال: «هكذا ذكر أهل التَّوراة وروي عن وهب بن منبه أنَّه عاش ألف سنة». ولا شكَّ أنَّ هذا بعيد، وكما أشار أنَّه مأخوذ عن أهل التَّوراة. وكذلك رأى البغوي أنَّه الصَّحيح، فقال: «والمراد بالخليفة هنا آدم، سمَّاه خليفة؛ لأنَّه خلف الجن، أي جاء بعدهم، وقيل: لأنه يخلفه غيره. والصَّحيح: أنَّه خليفة الله في أرضه؛ لإقامة أحكامه، وتنفيذ وصاياه». 
و لاشكَّ أنَّ اختلافهم في ذلك نابع من فهمهم لمعنى «الخليفة» من أن يكون «خليفة» لسابق، فوقعوا في أشياء عجيبة لا تثبت عند التَّحقيق، من ذلك أنَّ «آدم» عليه السَّلام جاء ليخلفَ «الجنّ» بعد أن نفاهم الله من الأرض، كما أشار البغويّ، أو يخلف «الملائكة»، أو يخلف «الله» سبحانه وتعالى في الحكم بين المكلَّفين من خلقه، وهو مرويّ عن ابن مسعود، وابن عبّاس، والسُّدِّي. بل قال أبو حيَّان: «وقيل: الخليفة اسمٌ لكلِّ من انتقل إليه تدبير أهل الأرض، والنَّظر في مصالحهم، كما أنَّ كلّ من ولي الرُّوم: قيصر، والفرس: كسرى، واليمن: تبَّع». وقال ابن كثير أيضًا: «ومن ذلك قيل للسُّلطان الأعظم خليفة؛ لأنَّه يخلف الذي كان قبله». وما قالاه بعيد لما فيه من التكلُّف، وإيجاد معنى جديد لم يألفه أهل اللُّغة. 
بينما ذهب آخرون إلى أنَّ المراد  «بنو آدم»، ومنهم ابن كثير حيث قال: «وليس المراد هنا بالخليفة آدم عليه السَّلام فقط»، «بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه فخر الدّين الرَّازي في تفسيره وغيره، والظَّاهر أنه لم يردْ آدم عينًا».
وما ذهب إليه ابن كثير هو الرَّاجح الذي نراه صوابًا لسببين:
الأوَّل: ما ذكره علماء اللغة والنَّحو وبعض أهل التَّفسير من أنَّ «خليفة» بمعنى «مفعول» ويكون المعنى: سيخلف آدم من بنيه جيلا بعد جيل، وهو المناسب لتتمَّة الآية في قوله تعالى: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}البقرة30. وبالاعتماد على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نجد ما يؤيِّد ذلك كقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}ص26. ومن المعلوم أنَّ «داود» عليه السَّلام لم يخلفْ أحدًا، ولم يسبقه أحدٌ في الحكم ليكون «خليفة» له. وقد ورد هذا المعنى بلفظ الجمع في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}الأنعام165، وزعم السِّيوطي أنَّ المراد جمع «خليفة»، أي: يخلف بعضكم بعضًا، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}يونس14. وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ}يونس73. ومنه أيضًا: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً}فاطر39.
ومن هنا نجد أنَّ «آدم» عليه السَّلام مخلوق ليكون «خليفة» في الأرض، أي تخلفه أجياله التي تتوارث الأرض بعده، وتسكنه جيلا بعد جيل، فهو ليس بديلا مكان أحد في الأرض، وبهذا المعنى يمكن نفي جميع المعاني التي اصطنعها المفسِّرون، واجتهدوا في إيجادها، فابتعدوا عن المعنى المراد منها، كما يقتضيه السِّياق، وكما يفسِّره «القرآن» نفسه، وهو ما ذهب إليه الحسن البصريّ.
الثَّاني: عند التَّحقيق في معنى «خليفة» لغويًا نجد أنَّها لم تأتِ بمعنى الحاكم، أو صاحب الولاية كما نحا إليه المفسّرون ومن ذهب مذهبهم، فقد قال ابن فارس في مقاييسه: «خَلَفَ، الخاء، واللام، والفاء، أصول ثلاثة، أحدها: أن يجيء شيء بعد شيء، يقوم مقامه. والثَّاني: خلاف قدَّام. والثَّالث: التَّغير ومنه الحديث: لخلوف فم الصَّائم أطيب عند الله من ريح المسك».
فلا نجد عنده ما ذكره الطَّبريُّ وأبو حيَّان وابن كثير وغيرهم من أنَّ «الخليفة» بمعنى السُّلطان الأعظم، مما يشير إلى أنَّه معنى طارئ، ومستحدث، لم يكن معهودًا لدى أهل العلم فيما سبق، إضافة إلى أنَّ الآية الكريمة السَّابقة تأباه، ولا تحتمل إلا الوجه الثَّالث في نصِّ ابن فارس، ويدعم ما ذهبنا إليه من أنَّ المراد بـ«جاعل» معنى «صيَّر».
إضافة إلى أنَّ أحدًا لم يسمِّ أبا بكر رضي الله عنه بـ«الخليفة» المراد بها السُّلطان الأعظم؛ يدلُّنا عليه أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لما تولَّى زمام الأمور استبدلها بكلمة «أمير المؤمنين» لعلمه أنَّها لا تعني الحاكم أو صاحب السُّلطة. 
وبالتَّالي إسقاط نظريَّة ضرورة «نصب خليفة» كما ذهب إلى ذلك ثلَّة من العلماء، وخالفهم «الأصمُّ» في ذلك، إضافة إلى ما عليه واقع الحال من أنَّ معظم من يدَّعي من أهل العلم أنَّ الحاكم القائم هو «الخليفة» هو مخالف لأحد الشُّروط المعروفة أن يكون «قرشيًا».
ولعلَّ من أقوى الأدلَّة على بُعد ما ذهبوا إليه في تفسير الآية السُّؤال التَّالي: إذا كان المقصود بـ«الخليفة» أن يقوم بأوامر الله وتنفيذ وصاياه في الأرض، أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى النَّاس بهذا اللَّقب؟! لمَ لمْ نجد وثيقة تاريخيَّة أو دينيَّة تثبت لنا تسميتَه بذلك؟ لماذا لا نجدُ وثائق تاريخيَّة أيضًا تشير إلى أنَّ «الخلفاء» قد سمُّوا فترة حكمهم بعهد «الخلافة»؟! أليس من أطلق «الخلافة الرَّاشدة» أراد أن يدخل نفسه في حيِّز «الخلافة» وإن لم تكن راشدة؟ إذا كانت تسمية الخلافة أو الإمامة غير معروفة في عهد الصحابة الأوَّل فمن أين جاءت؟ ومن أراد لها أن تكون موضع خلاف سياسيّ في الأمَّة لا ينتهي إلا بانتهائها؟