لقد كانت الوسطية الإسلامية الجامعة هي المنهاج الذي بلور علوم الحضارة الإسلامية ـ النظرية منها والعملية..
الدينية منها والمدنية ـ فكان:
> التركيز في فقه القرآن علي المحكمات ـ التي هي أم الكتاب ـ مع رد المتشابهات إلي هذه المحكمات.. وقصر التأويل ــ تأويل الراسخين في العلم ـ علي معارف عالم الشهادة, والاقتصاد الشديد في تأويل ماله علاقة بعالم الغيب.
> والوقوف في فقه العبادات ـ الذي بلورته اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية الكبري نقلا عن السنة النبوية ـ عند مجمل الفرائض والواجبات والسنن والمستحبات والمحرمات والمكروهات.. دون الدخول في التفريعات والتفاصيل والفروض المحتملة والمتخيلة.. مع التوازن بين فقه العبادات.. وفقه المعاملات.. وفقه الأموال والثروات.. وفقه السياسات.. فكان الإبداع في المذاهب الفقهية الكبري المعتبرة.. وكان الإبداع ـ كذلك ـ في الفقه السياسي لدي الفرق الإسلامية, التي بدأت جميعها حركات وتيارات سياسية في الأساس.
> كذلك تزامل وتوازن الإبداع الإسلامي في الفلسفة الإسلامية ـ علم التوحيد.. علم الكلام ـ الذي مثل آلية العقلانية الإسلامية المؤمنة في البرهنة علي عقائد دين الفطرة.. تزامل ذلك وتوازن مع إبداع العقل المسلم في ميادين علوم الكون, التي كانت ـ هي الأخري عبادة الله, يصبح أعلامها الأكثر خشية لله, عندما يكتشفون أسرار الله في الكون.. فهم المفسرون لكتاب الكون المنظور, كما أن مفسري القرآن الكريم هم المفسرون لكتاب الله المسطور.
بهذا المنهاج الوسطي المتوازن أبدع العقل المسلم علوم الحضارة الإسلامية في قرون التأسيس والاجتهاد التي ساد فيها هذا المنهاج..
> فلما حدث الانقلاب الحضاري علي الوسطية الإسلامية, الذي تعسكرت فيه الدولة ـ بسبب صراع الشعوبية الفارسية مع العروبة ـ ولما امتد عمر هذه العسكرة لمواجهة المخاطر الخارجية التي مثلتها الغزوات الصليبية(489 ـ690 هـ1096 ـ1291 م) والتترية(656 هـ1258 م).. ضمر الفقه السياسي, وانصرف العقل الفقهي الي التفصيل والتفريع, وإلي الفروض المتخيلة والمتوهمة في فقه العبادات, فاتحا الأبواب الواسعة للتعصب المذهبي الذي مارسه أهل الجمود والتقليد.. ولولا لطف الله ـ سبحانه وتعالي ولولا مركزية القرآن الكريم في الثقافة والحضارة, ولولا اشتداد المخاطر الخارجية التي هددت وجود الأمة كلها.. ولولا استمرار دعوات ودعاة التجديد وسلسلة المجددين, لمزقت الخلافات الفقهية والتعصب لها وحدة أمة الإسلام.
وفي ميدان التفكير الفلسفي, كان شيوع التأويلات للمتشابهات من تجليات هذا الانقلاب الحضاري, فكثرت الخلافات والاختلافات, وأسهمت النزعات الباطنية والغنوصية والعرفانية ـ عن طريق بعض الطرق الصوفية ـ في إشاعة هذه الخلافات بين قطاعات من عوام الناس.
ولقد رصد الفقيه الفيلسوف أبو الوليد بن رشد(250 ـ295 هـ1126 ـ1198 م) هذا التحول في هذا الميدان, وكيف شاعت التأويلات وانتشرت, بعد أن كان ممنوعا وضعها في كتب الجمهور.. وكيف أدخلت الخلافات الي ميادين الثوابت المؤسسة لوحدة العقل المسلم, وكيف أدي ذلك الي التفرق والتعصب.. بل وتراجع من الفضاء العام!.
ففي العصور الأولي صدر الإسلام وقرون الازدهار ـ كان أهل العلم والفقه والنظر, يجمعون ـ كما يقول ابن رشد ـ إلي ذكاء الفطرة, العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية.. وكان أهل النظر هؤلاء يسلمون بمبادئ الشريعة, ويدعون إلي التقليد فيها ـ ومثلها المعجزات, وما يقال بعد الموت ـ لأن مبادئ الشرائع هذه هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية, وهي الأساس لمبادئ الفضائل, فإذا نشأ الإنسان علي الفضائل الشرعية كان فاضلا بإطلاق, فإن تمادي به الزمان والسعادة إلي أن يكون من العلماء الراسخين في العلم, فعرض له تأويل في مبدأ من مبادئها, فيجب عليه ألا يصرح بذلك التأويل, وأن يقول فيه كما قال الله ـ تعالي( والراسخون في العلم يقولون آمنا به) آل عمران7.
ولقد صار الصدر الأول من الأمة الي الفضيلة الكاملة والتقوي بالتزام هذا المنهاج.. أما من أتي بعدهم, فإنهم لما تسلط علي التأويل في الشريعة من لم تتميز لهم مواضع التأويل, والصنف من الناس الذين يجوز لهم التأويل, قل تقواهم, وكثر اختلافهم, وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقا متباينة يكفر بعضهم بعضا, وهذا كله جهل بمقصد الشرع وتعد عليه.
هكذا شخص ابن رشد ذلك الانقلاب الفكري, الذي تمثل في الخلل الذي أصاب منهاج الوسطية الإسلامية في عصور التراجع الحضاري.. فبدلا من الموازنة بين فقه العبادات.. وفقه المعاملات.. وفقه السياسات.. وفقه الأموال والثروات.. تضخم فقه العبادات, مع ضمور الميادين الفقهية الأخري.. وبدلا من الوقوف عند الثوابت الجامعة لوحدة العقل الفقهي, اتسعت الأبواب والآفاق للخلافات والتفريعات والتفصيلات والفروض المتوهمة, التي يستحيل حدوثها في الممارسة والتطبيق.. ولاقتران ذلك بضمور الاجتهاد, ساد التعصب الذي اقترب بالعقل الفقهي من حدود التحجر في بعض البلاد والحالات.
لكن لطف الله ـ سبحانه وتعالي, ومركزية القرآن الكريم في الثقافة والحضارة, واستمرار سلسلة المجددين الذين دعوا إلي إحياء علوم الدين, كانت العاصم من عموم هذه البلوي.
لقد دعا هؤلاء المجددون بلسان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(450 ـ505 هـ1058 ـ1111 م) الي الرجوع إلي منهاج صدر الإسلام.. دعوا إلي أن يكون اعتماد الفقيه والمفتي علي بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه, لا علي الكتب, ولا علي تقليد ما يسمعه من غيره, فلا يقلد إلا صاحب الشرع ـ صلي الله عليه وسلم ـ فيما أمر به أو قاله.. وإلي الاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه, واعتبار المسائل المختلف فيها كأن لم تكن.. ونبه الغزالي علي أنه ينبغي أن يعلم طالب علم الشريعة عدم صحة قول من زعم أن جميع ما يذكر في كتب الفقه, خصوصا المتأخر منها, هو شرع الله المنزل علي رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وحذر كذلك من الفقهاء الذين لا بضاعة لهم في العلم إلا مسائل النجاسات الحسية, والمياه المخلوطة, وغير المخلوطة!
> وكذلك صنع شيخ الاسلام ابن تيمية(661 ـ728 هـ1263 ـ1328 م) الذي هون من مسائل الاختلاف, فقال: إن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة ـ في علم أصول الدين ـ لا تخلو من أن تتوقف صحة الدين علي معرفة الحق فيها أو لا تتوقف, والأول باطل, إذ لو كانت معرفتها مما تتوقف عليه صحة الدين ـ لا تخلو من أن تتوقف صحة الدين علي معرفة الحق فيها أو لا تتوقف, والأول باطل, إذ لو كانت معرفتها مما تتوقف عليه صحة الدين, لكان الواجب علي النبي صلي الله عليه وسلم ـ أن يطالب الأمة بهذه المسائل, ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها, فلما لم يطالبهم بهذه المسائل, بل وما جري حديث عن هذه المسائل في زمانه ـ عليه السلام ـ ولا في زمن الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ علمنا انه لا يتوقف صحة الإسلام علي معرفة هذه المسائل, وإذا كان كذلك, لم يكن الخطأ في هذه المسائل قادحا في حقيقة الإسلام, وذلك يقتضي الامتناع عن تكفير أهل القبلة.. إن العمل الواحد يكون مستحبا فعله تارة, وتركه تارة, باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية.. ولذلك استحب الأئمة ـ أحمد وغيره ـ ان يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين.. وقد يكون العمل المفضول افضل بحسب حال الشخص المعين, لكونه عاجزا عن الأفضل, أو لكون محبته واهتمامه, ورغبته وانتفاعه بالمفضول أكثر, فيكون افضل في حقه, لما يقترن به من مزيد علمه, وحبه وإرادته وانتفاعه, فالواجب توسيع ما وسع الله ورسوله, وتأليف ما ألف الله ورسوله, ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله في المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية.
المصدر: الاهرام
الآراء