في الآية 11 من سورة المجادلة يجد الإنسان نفسه قبالة آية تربط آداب السلوك في إحدى حلقاته، بقضية العلم والإيمان: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ "11"}(المجادلة). ويتساءل المرء: ما علاقة آداب السلوك بالإيمان والعلم؟ والجواب هو في هذا الفارق الجوهري الشامل الممتد الذي يفصل بين حضارتين؛ الحضارة التي تفك ارتباطها بتعاليم السماء، وتلك التي ترتبط بها وتتلقى عنها. ففي الأولى تتشكل مفردات السلوك وآدابه من خلال تنامي الخبرة الاجتماعية عبر شبكة علاقاتها، ويكون لمفاهيم المنفعة البراجماتية وضروراتها دورٌ كبير في تشكلها.. بينما في الثانية تنبني هذه المفردات والآداب على قاعدة متينة من الإيمان المستهدي بالعلم، فلا يكون ثمة للمنافع القريبة، والخبرة الارتجالية، أي دور في بنائها والالتزام بها. وكثيراً ما انقلبت مفردات السلوك في ديار الغرب العلماني، أو المادي الكافر رأساً على عقب، ووجدت دائماً من علماء الأخلاق والفلاسفة من يبّرر هذا الانقلاب، لا بل يجعله ضرورةً من الضرورات الاجتماعية. أما في الحالة الإسلامية، فإن المفردة الإيجابية تظل في موضعها، فيحترمها ويلتزم العمل بمطالبها المؤمنون كافة.. أما المفردة السلبية فهم يسعون جميعاً إلى تلافيها وإعلان الحرب عليها. وثمة فارق كبير بين القيم السلوكية المتجذرة في الإيمان، وبينها وقد انفكت عن مطالبه ومقتضياته.. وفارق كبير أيضاً بين القيم السلوكية التي لا يحرسها العلم ويسهر على حمايتها من التآكل وبين تلك التي يقف العلم الجاد إلى جانبها، ويحميها من العدوان. وإذا كان الغربيون يلتزمون بمفردات السلوك بدوافع الخبرة المتنامية أو المنفعة داخل بلدانهم، فإنهم يضربون بها عرض الحائط عندما يتعاملون مع الشعوب الأخرى. بينما في ظلال الإسلام تظل هذه المفردات تحمل أهميتها والتزامها داخل الأرض الإسلامية وخارجها سواء بسواء.. فالحلال حلال هنا وهناك.. والحرام حرام هنا وهناك.. إنها المعايير الإلهية الموضوعية العادلة والثابتة التي أريد لها أن تحكم الحياة. في المركزية الأوروبية، التي انسحبت عبر العقود الأخيرة إلى أمريكا، يجد الغربي نفسه ابن الحضارة الأم.. سيدة الحضارات في هذا العالم.. بدءاً من حضارة اليونان والرومان، وانتهاء بالحضارة الغربية المعاصرة.. فيما خيّل له أنه سيد العالم، وأن من حقه أن يتعامل مع الشعوب الأخرى تعامل السادة مع العبيد.. هنالك حيث يدوس بقدمه على كل مفردات السلوك التي عرفها في دياره.. لكنها في ديار الآخرين الأقل منه منزلةً، تغيب عن الساحة، وتحل محلها بدائل في غاية القبح والبشاعة.. وقد انسلخت عن منظومة القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية. إن منطوق الباحث الأمريكي «هنتنكتن» هو: إن الغرب إذا أراد أن يحتفظ بمركزه المتقدم في العالم إزاء الشعوب الأخرى فعليه أن يجد شخصاً يطلق عليه النار.. وفي يوم ما كان الاتحاد السوفييتي هو هذا الشخص، فلما زال الاتحاد السوفييتي، كان على الغرب أن يبحث عن شخص بديل، وقد وجده في عالم الإسلام ودّشنه في لعبة 11 سبتمبر وحرب أفغانستان والعراق. ومن قبل «هنتنكتن» شكل «هوبز» نظريته في القوة، وأن الدولة الكبرى إذا أرادت أن يحترمها الجميع، فعليها أن تتحقق بأقصى درجات القوة.. أن تصبح «لوياثان».. هذا الحيوان البحري الأسطوري الهائل الذي يفترس كل من يقف في طريقه. وجاء زعماء أمريكا بدءاً من «جونسون» و «نيكسون» في حرب فيتنام، مروراً بـ«ريجان» في ملاحقة قضية حقوق الإنسان، وصولاً إلى «بوش» الأب والابن، في مطاردة الإرهاب، لكي ينفذوا هذه المفاهيم في سياساتهم وبرامج عملهم إزاء الشعوب المستضعفة. فكيف إذن لا ترتبط مفردات السلوك في أصغر حلقاتها وأكبرها بقضية الإيمان، والعلم، في المنطوق الإسلامي.. لكي تتشكل بهذه الحضارة العادلة السمحة التي تتعامل مع الجميع بالمعيار الإلهي الواحد، فلا تغريها القوة، فتندفع بها بعيداً عن موازين الحكمة، كالذي شهده العالم عندما قامت أمريكا بضرب «هيروشيما» و«ناجازاكي» بقنبلتيها الذّريتين اللتين أتت بهما على هاتين المدينتين من القواعد؟ وهل تبيح القيادات الإسلامية، لو قدّر لها أن تتولى زمام العالم، أن تفعل عشر معشار هذا الذي فعلته أمريكا؟!
الآراء