هل فتحت إیران بالسیف؟ وهل أکره الناس علی اعتناقهم للإسلام کدین جدید؟ هل فرض الفاتحون المسلمون أنفسهم ولغتهم وثقافتهم علی شعوب الدول المفتوحة؟ هل تعدی المسلمون علی دور عبادتهم واستهدفوا معتقداتهم وأجبروهم علی الاعتناق للدین الجدید؟

هذا مجرد نماذج لتساؤلات عدیدة تبادر إلی أذهان فئة من الناس في بلادي وتجري علی ألسنتهم وغیض من فیض من الشکوک التي یثیرون بعض المعارضین "القلقین" حول جدارة الإسلام وصلاحیة المسلمین لتولي مقالید السلطة وقد أرهقهم سوء الظن وزعموا أن إیران القدیم کانت ذات ثقافة مرموقة کما تبدو من معالمها التأریخیة الموجودة في عدید من المدن وطائفة من هؤلاء دوما ما یبدون عن مقتهم وانزعاجهم لما فعل بهم العرب المسلمون الذین کانوا یأکلون الجراد والسحلیة ویعیشون معیشة بدویة بحتة بعیدین عن الحضارة والرقي فإذا یأتون من البادي ویقتحمون بلادهم بسهولة بعد فترة غیر طویلة ویطیحون بسلاطینهم من مقاعد السلطة وقد عبر الشاعر الإیراني الکبیر أبو القاسم الفردوسي مشاعر فریق من أسلاف هؤلاء حین یعربون عن أسفهم لهذا الحدث المأساوي بناء علی زعمهم قائلا:

"وبعد تناولهم حلیب الإبل وأکلهم السلیحة الیوم نری العرب یحلمون بقصور الإیرانیین فأف لک أیها العالَم"!

فما هي الحقیقة؟ وما نقول عند الرد علی هؤلاء؟

فبغض النظر عما یدعيه هؤلاء المعارضون یمکننا القول بأن دخول الإسلام في إیران کان کغیث مدرار نزل علی کافة أنحائها الواسعة وأدی إلی تنمیتها وتطویرها في مختلف المجالات وإذا تأملنا في أوضاع إیران الاجتماعیة والاقتصادیة والدینیة قبل مجئي الإسلام نری بوضوح أنها ما کانت مرضیة في أي حال من الأحوال؛ إن الشعوب کانت تعاني من التمییز والاضطهاد ومن أداء الضرائب الشاقة والظلم والاستبداد ولذلک استقبلوا المسلمین الذین دخلوا بلادهم بأحضان مفتوحة قبلوا دینهم وشعائرهم وإضافة علی هذا قدموا أفضل خدمات علمیة وثقافیة لهذا الدین الجدید ومن ثم صارت اللغة العربیة لغة إیران الرسمیة وانخرط العلماء الإیرانیین في کتابة قواعد اللغة العربیة حیث لم تکتب آنذاک وألف سیبویه العالم الإیراني کتابه الشهیر المسمی بـ"الکتاب" في قواعد اللغة العربیة بینما أن قواعد اللغة الفارسیة لم تؤلف إلا بعد مرور ثلاثة عشر قرنا حیث قام میرزا حبیب الإصفهاني بکتابة "دستور سخن" سنة 1289هـ وهو أول کتاب تم تألیفه في قواعد اللغَة الفارسیة.

هذا وقد زین المؤلفون المسلمون الإیرانیون المکتبة الإسلامیة بآثارهم الباهضة في مختلف المیادین بما فیها التفسیر والحدیث والفقه والبلاغة وعلم الفلک والریاضیات والکمیاء والفیزیاء و... حیث أدوا إلی ازدهارها وقد أثار التقدم العلمي للمسلمین إعجاب العالم وهي أعظم من أن نقوم بتفصیله في هذا الموجز القصیر وخلاصة القول إذا بدأ عصر النهضة أو الثورة الصناعیة بأروبا متزامنا مع إبداع الآلة البخاریة فنستطیع القول بالتأکید أن دخول الإسلام في إیران کان بدایة للنهضة العلمية والثقافیة في تلک البلاد ونتحدي أن یوجد أثارة من علم أو کتاب أو مرکزا للتعلیم أو عالم جلیل في مجال ما في کافة أنحاء الإمبراطوریة الإیرانیة قبل مجیئ الإسلام.

وأما الذي یهمنا في هذا المجال لیس تثبیت خدمات التي قدمها الإیرانیین للإسلام ولا سرد مزایا الإسلام وعنایته للعلم والعلماء؛ لأن العلماء المسلمین وغیر المسلمین کتبوا في هذا المجال وأدوا الإنصاف له منها کتاب "الخدمات المتبادلة للإسلام وإیران" بقلم الأستاذ مرتضی مطهري. کما أشرنا أننا الیوم أمام جیل رغم أن عددهم لیس کثیرا ولکنهم یتزایدون تدریجیا ولهم حماة في الخارج یقومون بالتحرک الإعلامي ویتحدثون عن تراثهم العریق وثقافتهم المرموقة ویبدون أسفهم علی مجدهم وعزتهم التي تم دسها في حملات العرب علی بلادهم ویتباهون بطلال تخت جمشید ویترحمون علی أیامهم الخالیة ویروون من کوروش الهخامنشي حکما لم ینقلها البخاري عن النبي صلی الله علیه وسلم ونری لمحات من الرسوم والنقوش المتعلقة بعصر الهخامنشیین والساسانیین علی کثیر من الجدران لتعلقهم القلبي بهذه الرسوم.

وإذا خاطبتهم بما جاءنا في کتاب الله رأیتهم یتباهون بدین الزرادشتي وبکتابهم المقدس أوستا الذي من أبرز تعالمیه "العمل الطیب والکلمة الطیبة والفکر الطیب" ویزعمون أن هذا قد یکفیهم ویعرضون عن کل ما سواه ناهیک عن قیامهم بتبریر اضطهاد الملوک الماضیة ومظالمهم یکاد السامع یجد نفسه في مدینة فاضلة وکأن العرب لم یکونوا إلا مجموعات معادیة أتت بقضها وقضیضها فاجتاحوا بلادهم وفعلوا بها ما لم یفعل جنکیز وهولاکو من احتلال البلاد وارتکاب المجازر وسبي النساء و... فتعالوا معنا حتی نقوم بالکشف عن ما جری والإفصاح عن الحقیقة وخفایاها من موقف رجل منصف ثم نحکم حکما عادلا.

وقبل 950 سنة من ظهور الإسلام دخل إسکندر المقدوني إیران من الجانب الغربي واجتاح الإمبراطوریة الهخامنشیة وقام بإحراق تخت جمشید والقتل والدمار الهائل؛ ومن جانب آخر تعرض إیران في سنة 616هـ لغارة المغول والتتار حیث قاموا بحرق البلاد وقتل العباد حتی دخلوا إلی بغداد وقاموا بتخریبها ونهبها وإنهاء دولة الخلافة وهذا کان من أشد الكرَب التي ضربت البلاد وأكثرها إيلاما؛ ولکننا قل ما نجد من یبکي علی تلک الضحایا ویبدي أسفه علی ذلک الدمار الهائل والکمیات الکبیرة من النهب والإحراق إما ما یتعلق بزمن إسکندر أو التتار ونری لا یبدون مقتهم لهؤلاء الغزاة ویطلقون علی أبنائهم أسماء إسکندر وجنکیز وهولاکو بینما یأبون من إطلاق أسماء کخالد ومثنی وعُمر وسعد و... علی إبنائهم!

فما حقیقة مقتهم وغضبهم؟ هل یبدونه شفقة علی بلادهم ومجدهم وحنانا علی موتاهم أم لهم حقد خفي علی الإسلام وتعالیمه؟ فتارة یتهمون المسلمین باستباحة دماء آبائهم ونهب أموالهم ویدعون أن الأسلام فرض علیهم بالسیف وأکرهوا بقبوله وتارة یستهزئون من شعائرهم؛ فنسألهم أوما کان بإمکان أسلافهم رفض الدین الجدید والاعتکاف في معابدهم ودورهم العبادیة؟ فبإقرار العدو والصدیق أن المسلمین لم یتعرضوا علی أي جزء من مقدساتهم ولم یغلقوا کنیسة ولا صومعة ولا یزال هناک معابد للنار في بعض محافظات إیران المرکزیة وأن عباد النار یقومون بممارسة طقوسهم الدینیة ولم یتعرض علیهم أحد علی مر التأریخ. هذا وقد جاء في المعاهدة التي أبرمها خالد بن ولید مع أهل حیرة: "لا یهدم لهم بیعة ولا کنیسة ولا یمنعون من ضرب النواقیس ولا إخراج الصلبان في یوم عیدهم" [کتاب الخراج:215].

فلنسأل ما بال هؤلاء القوم المغلوب علی أمرهم یرون مجموعات من المقاتلین الأجانب ذووا ثقافة بدویة یأتون من صحاري جافة یجتاحون بلادهم ویقتلون أشرافهم ویسبون نساءهم بینما نراهم لا یترددون في قبول الدین الجدید وتقدیم الخدمات العلمیة والثقافیة لهذا الدین؛ حیث جعلوا یؤلفون کتبا کثیرة في قواعد لغتهم ویقومون بتطویر ثقافتهم وحضارتهم و... هل هذا هو معقول؟ وهل یقبله الحکماء؟ فما کانت الدوافع التي أدت إلی أن تدخل الشعوب المغلوبة في الإسلام وتتراجع عن معتقداتها في فترة قصیرة جدا؟ مع أنهم لا یفهمون شیئا من لغة الغزاة الفاتحین وما کان لدیهم کتاب القرآن بالکامل إلا منشورات قلیلة.

نعم إن هؤلاء لما رأوا سمات المسلمین البارزة والقیم الأخلاقیة الرفیعة ومعاني الإنسانیة السامیة بما فیها عدالتهم مع المخالفین في الدین ورحمتهم للمسلمین وشفقتهم بالآخرین اشتاقوا إلیهم واعتنقوا الدین الجدید. إنهم وجدوا أنفسهم أمام قوم لم یمکنهم أن یفککوا بین أمیرهم وصغیرهم في الملبس والمجلس والمأکل إذا کانوا مجتمعین معا وهذا من غرائب سماتهم ومیزاتهم؛ رأوا أنهم یقیمون العدل ولو کان علی أنفسهم أو أقربائهم وهذه السمات قد أثارت إعجابهم بالمقارنة مع ما اعتادوا علیه من تعاطي ملوکهم وسلاطینهم مع شعوبهم. وقد سمعوا منهم "لیس لعربي علی عجمي فضل ولا لعجمي علی عربي فضل ولا لأحمر علی أبیض فضل إلا بالتقوی" وأن التقوی في القلوب ولا یعلمه إلا الله؛

ما أحوج العالم إلی هذه الکلمات في تلک الأیام ویا لها من شعارات جمیلة ومغزیة أحبوها بملئ قلوبهم وقبلوها. إن الإسلام فتح أمامهم أبواب العلم وبلغهم إلی ذروة العلم والحکمة وأراهم جمال الحیاة؛ ما أجمل الدین الذي یجعل طلب العلم فریضة لأتباعه بینما کانوا یحرمون منه قرونا طویلة وما أعظم التراحم الذي اعتادوا علیه في ظل هذا الدین؛ إنهم قد سمعوا من المسلمین: "مثل المؤمنین فی توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم کمثل الجسد الواحد..." ورأوا أنهم یطبقون هذا الشعار في واقع حیاتهم وهذه لیست شعارات فارغة بحتة لأنهم لم یشهدوا قبلهم أقواما یرددون شعارات فارغة یعبثون بعقائد الناس ویظهرون بمظهر المسلم ذي الإخلاص والتقوی ولکن ممارساتهم وأعمالهم بعیدة کل البعد عن المهام الإسلامیة الأساسیة؛ لذلک نراهم لم یترددوا في قبول هذا الدین والانضمام إلی صفوف المسلمین. نعم هذا کان سر قبول الإسلام لدی الإیرانیین لا ما یشیعه المعارضون "القلقون"...