ما أجمل الحياء عندما يكون خلقا للأفراد والجماعات ! فالحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير ، فهو خلق يبعث صاحبه علي ترك القبيح ، ويمنعه من التقصير دون واعظ أو زاجر.. فالرجل الحييّ حي الضمير ، رهيف الإحساس ، تجده من تلقاء ذاته لا يقدم علي فعل ما لا ينبغي .. ، وإذا أقدم - بحكم بشريته - تراه وقد احمرّ وجهه وتصبب الجبين منه عرقا، وعاد من قريب إلى رشده ووعيه، وحمرة الخجل تكسو وجهه! وفي هذا المعنى يقول الشيخ (الغزالي) رحمه الله: مِن الناس مَن يخطئ بيد أنه يجد في نفسه من الألم والحسرة والندم ، ما يجعل المعصية تُولد ميتة ، تُولد ورحمة الله - جلّ وعلا - في انتظارها! بمثل هذا الرجل الحييّ - الذي تسره حسنته وتحزنه سيئته - تُحفظ الأموال والأعراض ، وتُحمي الحرمات وتُصان الأمم! والمجرم تجده صفيق الوجه ، بليد الشعور والإحساس ، لا يتحرج من فعل ما لا ينبغي ..، ولا يبالي بما يأخذ أو يترك ، فليس عنده من الحياء ما يمنعه من ارتكاب الدنايا، ولا من الضمير ما يزجره عن الوقوع في الذنب ، لا تسره حسنة ولا تحزنه سيئة ، ولا يتورع عن ارتكاب كبيرة ولا صغيرة ، ولا يجتنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولذا يرى عظيم جرمه شيئا حقيرا كالذباب جاء على وجهه فأطاره.. بمثل هذا المجرم الجريء على الله وعلى الناس ، تُنتهك الأعراض ، وتُهدر الأموال ، وتضيع الحقوق ، وتهلك الأمم !

ولأمر ما جعل النبي صلی الله علیه وسلم الحياء قرين الإيمان وملازما له ، كما جاء في الحديث: "الحياء والإيمان قرنا جميعا ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر". [قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي] . وفي (الصحيحين) عن ابن عمر "أن النبي صلی الله علیه وسلم مر على رجل - وهو يعظ أخاه في الحياء - ، فقال رسول الله صلی الله علیه وسلم: دعه فإن الحياء من الإيمان". وفي حديث آخر ، نرى كيف يصلح المجتمع وأفراده بالحياء ، وفي المقابل ، كيف يسوء المجتمع وأفراده بالفحش؟

فعن عائشة رضي الله عنها قالت أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: "يا عائشة لو كان الحياء رجلا كان رجلا صالحا، ولو كان الفحش رجلا لكان رجل سوء". [رواه الطبراني في الصغير والأوسط ، والحديث حسن لغيره]. إذن لو تجسد الحياء في مجتمع لكان رمز الصلاح والإصلاح ، وأيضا لو تجسد الفحش في مجتمع لكان رمز السوء والفساد..! تصور مجتمعا: تحلّى أفراده ، وتزيّنت جماعاته بخلق الحياء ، مجتمعا يغالي بقيَمِهِ وأخلاقه ومبادئه ولا يرضى عنها بديلا مهما تحمل من متاعب ، ومهما لاقى من مصاعب .. فعنده أن يُرزأ في ماله ودنياه ولا يُرزأ في قيمه وأخراه .. مجتمعا: الصدقُ خلقه، والإخلاص غايته ، يكافئ العامل، وينهض بالخامل ، يقرّب البعيد، ويحافظ على القريب ، ينصف المظلوم، ويأخذ علي يد الظالم ، يكرّم علماءه ، ويعلّم جهلاءه ، يقدّم الأمين ويبعد الخائن ..!

لو وجد مثل هذا المجتمع ، لكان أجدر بعون الله ونصره وتأييده! ولو أن مجتمعا: تجرد أفراده ، وتعرت جماعاته من خلق الحياء ، مجتمعا لا يبالي بأن يدوس المبادئ ويذبح القيم، فلا يوقر كبيرا ، ولا يرحم صغيرا ، ولا يعرف لعالم حقا! مجتمعا: الكذب خلقه ، والتزوير وقلب الحقائق ديدنه ..! مجتمعا: يقرب الخامل ويبعد العامل ، يكرّم التفهاء، ويُهين العلماء ، ينصر الظالم ويخذل المظلوم ، يخوّن الأمين ويأتمن الخائن .. ، مجتمعا غايته أن ينجح في نيل شهوته ، وتحصيل دنياه ولو خسر جميع قيمه وأخراه .. لو وجد مثل هذا المجتمع ، لكان أحق بأن تُمحق بركته، ويكون البوار مآله وبضاعته! وقد بيّن النبي صلی الله علیه وسلم مراحل سقوط الأمم ، وكيف تنحدر من سيئ إلى أسوأ ، ومن سافل إلى أسفل؛ وذلك بهبوط أبنائها في منزلق الهوى وضياع الحياء ..

عن ابن عمر أن النبي صلی الله علیه وسلم قال: "إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام". [سنن ابن ماجة 2/1347 ، حديث 4054]. وما أجمل ما جاء في كلام الشيخ الغزالي رحمه الله تعليقا على هذا الحديث: "فإذا فقد الشخص حياءه، وفقد أمانته أصبح وحشا كاسرا ، ينطلق معربدا وراء شهواته، ويدوس في سبيلها أزكى العواطف ، فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة ، وينظر إلى آلام المنكوبين والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة.

إن أثرته الجامحة وضعت على عينيه غشاوة مظلمة ، فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويغريه بالمزيد .. ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام". ا.هـ حقا ، بالحياء تسمو الأمم إلي أعلي الدرجات وتُصان ، وبدونه تهوي إلي أسفل الدركات وتهان ..! وهذا ما جاءت به جميع الشرائع ، وأدركه الناس من كلام النبوة الأولى ، كما جاء في حديث النبي صلی الله علیه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" رواه البخاري. ولله درّ من قال : إذا لم تخش عاقبة الليالي ** ولم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء !!