دعا فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الأمة الإسلامية إلى الاستفادة من دروس الهجرة مشيرا إلى أن أهم هذه الدروس هو الجمع بين التوكل على الله تعالى حق التوكل، وبين الأخذ بجميع الأسباب، وقال إن للنساء وللأطفال دورا كبيرا ساردا اهم المواقف في هذه الهجرة. وقال فضيلته في خطبة الجمعة بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفريق كليب: كان الناس يؤرخون الأيام بالأحداث والوقائع التي حصلت معهم، ومن ذلك قولهم: حدث هذا قبل غزوة بدر، وهذا وقع بعد غزوة بدر، فجمع عمر رضي الله تعالى أهل الشورى والحل والعقد، واستشارهم في اتخاذ تاريخ خاص بالأمة الإسلامية، فأشار بعضهم إلى جعل البعثة أول تاريخ للإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: إن البعثة مرحلة ضعف وقد طالت، علينا أن نعتمد على حدث يعطينا القوة في ديننا، فاقترح على الحاضرين جعل الهجرة بدء تاريخ الأمة الإسلامية، فوافق الجميع على ذلك.
معركة المصطلحات
ورأى فضيلته أن تفكير عمر رضي الله عنه يعود إلى ما يسمى اليوم بمعركة المصطلحات، إذ يزخرف لنا العدو الباطل بمصطلحات براقة تدعو إلى قبول الباطل والإذعان له، ومن ذلك تسميتهم الربا بالفائدة، ومَنْ يرفض الفائدة؟ وإطلاقهم المشروبات الروحية على أم الخبائث الخمر المدمرة والضارة، وكذلك تسميتهم الأفكار الهدامة التي تفصل الدين عن الحياة والواقع بالعَلمانية..
وقد نهى الله تعالى المسلمين عن استعمال بعض المصطلحات التي كانت سائدة في مجتمع يهود المدينة لما تحمل من معان خبيثة فاسدة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا . مشيرا إلى أن الهجرة كلمة جميلة وتحمل معاني جميلة، منها هجر الذنوب والمعاصي والآثام، والابتعاد عن الفواحش والمنكرات، قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»..
فالهجرة بناء وحضارة وتخطيط، علينا أن نستثمرها في بناء حضارتنا اليوم، وعلينا أن نتخذ منها دروساً وعبراً تنير دروب حياتنا. وفي هذا الشهر يوم جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثواب صيامه كفارة ذنوب سنة، سُئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العاشوراء، فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ»، كما وعد أن يصوم التاسع من شهر الله المحرم، ولكنه وافته المنية قبل ذلك، فعلى الإنسان أن يحرص على صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر من هذا الشهر، إن تيسر له، وإلا فعليه أن يقتصر على صوم العاشر من هذا الشهر؛ رغبة في الأجر والمثوبة.
قلب موازين التاريخ
وقد بدأ خطبته قائلا: كلما تجدد العام تجددت معه ذكريات وحكم ومنافع عظيمة، ومن هذه الذكريات ذكرى الهجرة التي غيرت مجرى التاريخ، والحدث العظيم، الذي قلَب موازين التاريخ، وغيَّر وجه البشريَّة، إنَّه حادث الهجرة النبوية المباركة، من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة النبويَّة، التي كانت سبيلاً إلى إنشاء الدولة الإسلامية؛ حيث شعَّ نور الإسلام في الأصقاع، ودخل النَّاسُ في الدين أفواجًا.. حيث أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام أشد أنواع الإيذاء في سبيل تبليغ هذه الدعوة إلى الناس أجمعين، ولاقوا في بداية الأمر معارضة قوية من كفار قريش بخاصة، ومن كل الكفار بشكل عام، واشتد الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فقد زوجه خديجة رضي الله عنها التي كانت تؤويه، وبعد أن فقد عمه أبا طالب الذي كان يسانده ويحميه، فقرر البحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته، فهاجر إلى الطائف يرافقه زيد بن حارثة رضي الله عنه، لعله يجد في قبيلتي هوازن وثقيف أذناً تصغى إلى دعوته وتنصرها، ولعله يجد في الطائف بغيته في توصيل هذه الدعوة إلى الناس بعد أن صدت قريش دونها الأبواب.
إيذاء النبي
وتابع: لم يكن رد أهل الطائف أقل وطأً من رد قريش، لقد رفضوا الاستجابة لدعوته، وقالوا: لو كان خيراً ما تركه أهله وعشيرته، وشحذوا غلمانهم وسفهاءهم ورموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة وضربوه بالعصي حتى أدمي وجهه، وشُجّ زيد في وجهه وقدمه، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة دون أن تدخل الطائف في الإسلام.. وفي طريق عودته يأتيه الوحي من السماء، جبريل عليه السلام، ومعه ملكا الجبال والرياح، وتطيباً لخاطره، يطلبان منه صلى الله عليه وسلم الإشارة في إهلاك الطائف ومن فيها، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً»، إنها الرحمة المهداة التي بها جاء هذا الدين، وبها امتاز.
لا يأس
وأشار فضيلته إلى استبعاد اليأس بقوله: لم ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوته، ولم يتراجع عنها ثقة بربه سبحانه وتعالى، لذلك مكثَ في مكة مدَّةً من الزَّمن، يدعو قومه إلى الهدى، فما آمن له إلاَّ قليل، بل عاش الاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، وقويت عزيمته على مُواصلة رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، وبخاصة في سوق عكاظ، حيث اجتماع القبائل العربية لتتبارى في الشعر وتتفاخر بالأنساب والأحساب، ويقول: ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي.
فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى فتح الله له صدور الأنصار، فوفد إليه ثلة من الأوس والخزرج وأسلموا، وقالوا: «إنه النبي الذي تتوعدنا به اليهود، فلا يسبقونا إليه»، فكانت بيعة العقبة الأولى، وفي العام الثاني يفد إليه 73 رجلاً وامرأتان، يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وذريتهم، وكانت بيعة العقبة الثَّانية.
مصعب أول سفير
وقال فضيلته إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أول سفير للإسلام معهم، مصعب بن عمير رضي الله عنه، يعلم أهل يثرب الإسلام، حتى شع نور الإسلام في كل بيت، وملأ أرجاء المدينة، وبذلك تهيأت النواة الأولى لتأسيس دولة الإسلام، ومُهِّد الطريق لاستمرار الدعوة، كانت الهجرة ثمرة عمل دؤوب وصبر دون كلل أو ملل.. أذن الله تعالى بعد ذلك بالهجرة، فهاجر من هاجر من الصحابة، ولك واحد منهم قصة طريفة، فهذا هذا صُهَيب الرُّومي، لَمَّا أراد الهجرة، قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكاً، فكثر مالُك عندنا، وبلَغْتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تَخْرج بِمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: «أرأيتم إنْ جعلْتُ لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟» قالوا: نعم، قال: «فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي»، فبلغ ذلك رسولَ الله- صلى الله عليه وسلَّم- فقال: رَبِح البيع أبا مالك .
قصة الهجرة معروفة لديكم، وكتب السير مستفيضة بتناقل أحداثها، وإنني في هذه الخطبة أعلق على دروس عظيمة تؤخذ من الهجرة، وهذه الدروس هي نبراس وقدوة لنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
التوكل والأخذ بالأسباب
وأهم دروس الهجرة هو الجمع بين التوكل على الله تعالى حق التوكل، وبين الأخذ بجميع الأسباب، إذ كل النظم إما أن تعتمد على الأسباب الظاهرة فقط، كما هو الحال في الحضارة الغربية، أو أن تعتمد على الجانب الروحي فقط، أما الإسلام فهو توازن وترابط بين الأمرين، ففي حالة التوكل على الله تعالى كأنه ليس هناك من سبب يُعتَمَد عليه، وفي حال الأخذ بالأسباب كأن الأمر ليس فيه توكل على الله تعالى، ولما فقد المسلمون هذا التوازن لم يُوفقوا ولم يتحقق لهم ما يريده الله تعالى لهم من التقدم والقوة والحضارة.
التخطيط الاستراتيجي
وأشار إلى مصطلح حديث أخذ به المسلمون قائلا: من الأخذ بالأسباب بعد التوكل على الله تعالى حق التوكل التخطيط الاستراتيجي بكل ما تعني الكلمة، من توزيع الأدوار والطاقات والقدرات والموارد كل حسب المتاح. انظر إلى التخطيط النبوي في الهجرة، حين أذن الله تعالى له بالهجرة، اختار صلى الله عليه وسلم الصَّدِيق قبل الطريق، والراحلة تُعْلَف وتُجهَّز قبل أربعة أشهر وبِسرِّية تامَّة، وعليُّ بن أبي طالب يُكَلَّف بالنوم في فراش النبِيِّ- صلى الله عليه وسلَّم- تَمويهًا على المشركين، وتخذيلاً لَهم، وليؤدي الأمانات التي استودعته قريش إلى أهلها.
الآراء