لقد كان الإصلاح -على مر التاريخ الإنساني- هو رسالة الأنبياء والمرسلين: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" [هود: 88]، وللإصلاح -في الرؤية الإسلامية- منهاج متميز عن نظائره في كثير من الأنساق الفكرية والفلسلفات والحضارة التي انتشرت وسادت خارج إطار الإسلام. فالإصلاح الإسلامي ليس تغييرا جزئيا ولا سطحيا، وإنما هو تغيير شامل وعميق، يبدأ من الجذور، ويمتد إلى سائر مناحي الحياة، بل إنه لا يقف عند ميادين الحياة الدنيا، وإنما يجعل صلاح الدنيا السبيل إلى الصلاح والسعادة فيما وراء هذه الحياة الدنيا.

وهو لا يقف عند "الفرد" - كما هو الحال في المذاهب "الفردانية"- كما أنه لا يهمل الفرد، مركزا على "الطبقة" - كما هو الحال في في كثير من المذاهب والفلسفات الاجتماعية اليسارية- الوضعية والمادية.. وإنما يبدأ الإصلاح الإسلامي بالفرد، ليكون منه الأمة والجماعة، فالإسلام دين الجماعة والجماعة أشمل وأوسع من الطبقة، وبدون صلاح الأفراد لن يكون هناك صلاح حقيقي للأمم والجماعات، ولهذه الحقيقة من حقائق الإسلام جمعت التكاليف الشرعية الإسلامية بين "الفردي" و"الاجتماعي" -الكفائي- لأن صلاح الفرد هو الذي يؤهله للقيام بالفرائض الإجتماعية والمشاركة في العمل العام، الذي تعود ثماره على الجماعة - المكونة من الأفراد -.. بل لقد رفع الإسلام مقام التكاليف الإجتماعية فوق مقام التكاليف الفردية، عندما جعل إثم التخلف عن التكليف الفردي مقصورا على الفرد وحده، بينما إثم التخلف عن التكليف الإجتماعي شامل للأمة جمعاء، بل ورفع الإسلام ثواب التكاليف الفردية إذا هي أديت في جماعة واجتماع.

ولهذه الحقيقة كانت رهبانية الإسلام هي الجهاد، أي بذل الوسع واستفراغ الجهد والطاقة في أي ميدان من ميادين العمل الصالح في الحياة، فالجهاد ليس العمل القتالي وحده، والرهبانية - في الإسلام - هي على العكس من العزلة التي تدير ظهرها للأمة والاجتماع والصالح العام. وإعلاء لمقام الإصلاح - بهذا المعنى - في الإسلام، تحدث عنه القرآن الكريم باعتباره "سنة" من سنن الله سبحانه وتعالى و"قانونا" من قوانين الاجتماع الحضاري، لا تبديل له ولا تحويل.. فالتغيير الإصلاحي لابد أن يبدأ من "الذات" ليشمل "الذوات":

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [الرعد:11]،

"ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع علیم" [الأنفال:53].

ولأن الإصلاح "سنة" لها قوانينها، كانت له دورات تصل ما انقطع، وتجدد ما رث، وترتفع بالأمم والحضارات من التراجع والانحطاط فتعيدها إلى دورات التقدم من جديد.. وعن هذه الناحية من سنن الإصلاح يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:

"لا يزال الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره" رواه الإمام أحمد.

كذلك حدثنا القرآن الكريم عن أن الصلاح والإصلاح قد كان سنة جميع النبوات والرسالات، وطريق سائر الأنبياء والمرسلين.. فنقطة البدء في سائر الشرائع السماوية هي "الإيمان" الذي يعيد صياغة الإنسان صياغة إيمانية.. والذي يتجلى - من ثم- في العمل الصالح والمصلح لكل ميادين الحياة.. فبداية الإصلاح إنما تبدأ بالصلاح الذي تتغير به الجذور والأصول والمنطلقات والمبادئ والهويات والفلسات والثقافات، ورؤية الإنسان للكون، وموقعه من هذا الوجود، ورسالته فيه، ليتحول هذا الصلاح إلى إصلاح شامل لكل ميادين الفروع في سائر مناحي الحياة. وفي المنهاج الإسلامي لا يكفي الوقوف عند الصلاح الفردي..

فالمجتمعات الظالمة التي يغيب فيها وعنها الإصلاح، قد يصيبها الهلاك مع وجود الصالحين فيها:

"واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة "[الأنفال:25]،

بينما الهلاك لا يطال المجتمعات التي فيها مصلحون يجاهدون في سبيل الإصلاح العام

"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" [هود:117]،

فالصلاح الفردي لا يغني عن الصلاح العام.