إن الناس يقبلون الخضوع للدولة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، لأنهم قد يصلون لدرجة من الوعي يستطيعون معها إدراك هذه الحقيقة: وهي أنهم حين يتنازلون عن بعض امتيازاتهم في هذه الشئون للمحرومين منها فإن ذلك سيعود عليهم بالخير في النهاية. أو على الأقل يخضعون لها بحكم السلطة التي تملك بها إخضاعهم لأوامرها. ولكن الشأن يختلف في المسألة الخلقية. فالناس لا يتنازلون عن متاعهم ولذائذهم من أجل الدولة وحدها. وقد يدرك الفلاسفة والمشتغلون بالقضايا الفكرية أن التحلل الخلقي شر على الإنسانية يعود عليها بالبوار، ويبدد طاقتها في محيط حيواني هابط، فلا تتطلع إلى الارتفاع، ولا تجد الطاقة اللازمة له، لو اتجهت إليه. ولكن غمار الناس لن يدركوا ذلك، لأنه قد لا يقع في جيلهم. قفد تظل الأمة سليمة –من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة، بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس. فيتعذر على الشخص العادي، أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات، أن يصدق أن تحلله هو –وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام، يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره. وحتى إذا صدّق بذهنه، فإنه –بغير تهذيب ديني- لا يستطيع أن يمتنع عن اللذة العارمة التي يحسها من أجل خطر لا يرى أنه سيقع عليه مباشرة، حتى إذا وقع في نفس الجيل.

فإذا فرضنا أن الدولة من عندها –أي بالقوانين الأرضية وحدها- تعاقب على الجرائم الخلقية حين تضبطها، فهي لن تستطيع أن ترى كل جريمة، ولا أن تتعقب كل مجرم. وسيفلت منها كثير من الجرائم بلا إثبات ولا عقاب. ومع ذلك فهذا فرض نظري في الوقت الحاضر، فدول الغرب “المتحضر” كلها لا تكاد تعاقب على هذه الجرائم إلا حين تقع كرها أو على القاصرين!

وإنما يحتاج الامتناع عن الجريمة الخلقية إلى الارتباط بالله. وذلك وحده هو الضمان.

الارتباط بالله هو الذي يهذب النفس فلا تندفع وراء الجريمة.

وهو الذي يقيم أهدافا أعلى من أهداف الأرض تستنفد الطاقة الجسدية والنفسية الفائضة فتصرفها عن عالم الشهوات.

وهو الذي يقيم في داخل النفس حسيبا يراقب كل عمل لا تصل إليه يد القانون ولا تبصره عين الدولة.

وهو الذي يعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الأرض، أملا في النعيم الدائم في السماء.

وهو الذي يحدث في نهاية الأمر رهبة من الجريمة أقوى من رهبة الدولة والقانون.

وبهذه العوامل كلها مجتمعة ومممتزجة في العقيدة، يمتنع الناس عن ارتكاب الجريمة. فإذا أضيف إلى ذلك أن تكون القيود التي تفرضها العقيدة معقولة في ذاتها لا تحرم إلا المتاع الزائد عن الحد، ولا تكبت الشهوات من منبتها، فقد استوت لها العدالة مع القدرة على التهذيب. وذلك ما يتحقق في العقيدة الإسلامية التي تعترف بالشهوات على أنها الأمر الواقع بالنسبة للبشر: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ..) ولكنها فقط تهذب التنفيذ العملي لهذه الشهوات، فتقف بها عند الحد الذي لا يؤذي الفرد ولا المجتمع، ويتيح في الوقت ذاته قسطا معقولا من المتاع.