حدثت تلك المحنة في السنة الثامنة عشرة من الهجرة – أي بعد حوالي ست سنوات من خلافة الفاروق رضي الله عنه .
انقطع المطر لمدة تسعة أشهر وقيل عام كامل ، فاختفى الزرع والنبات الأخضر ، وجاءت رياح برماد يملأ الأفواه فسمي ( عام الرمادة ) ، وجف اللبن في الماشية وبدأت أزمة كبرى طاحنة ، لأن الصحراء في ذلك الزمان سر المياة فيها هو المطر .
قالوا : إن الوحوش كانت تأوي إلى الإنس ، وإن الرجل كان يذبح البهيمة فيعاف أكلها من شدة نتنها .
وتجمعت القبائل من كل الجزيرة إلى المدينة تطلب الغوث والمعونة من أمير المؤمنين ، حتى بلغ من أقاموا حول المدينة ستين ألفاً .
تخيلوا أن الذين ماتوه منهم من شدة الجوع والعطش بلغ أربعين ألفاً .
سيدنا عمر عين بعض المسئولين لتوزيع ما يتوفر في بيت المال من دقيق وسمن وخل ، لكن لا شئ يكفي .
حرم الفاروق على نفسه السمن واللحم حتى يأكله عامة المسلمين ، واسود وجهه وكان شديد البياض ، وخشي عليه الصحابة أن يهلك من شدة حزنه على المسلمين .
وأرسل إلى البلاد الإسلامية فأرسلت مدداً كثيراً من مصر ومن الشام ومن العراق ، ولكنه لا يكفي لشئ إلا فترة محدودة ، وأصبح الموت بالجملة ، فيصلي أمير المؤمنين على الجنازات التي تصف أمامه بالجملة .
ثم كانت الدعوة إلى الله والفزع إلى صلاة الاستسقاء ..
كان أكثر دعائه الاستغفار والبكاء ويقول : " اللهم لا تجمع هلاك أمة محمد على يدي – اللهم إني قد عجزت ، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
ثم طلب سيدنا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ليستشفع به إلى الله ، وكان من دعائه :
( اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة ، وهذه أيادينا مبسوطة إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة ، اللهم هؤلاء عبادك ، قد استشفعوا بي إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وسلم ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ) .
فلم يبرحوا أماكنهم حتى جاء المطر من كل جانب وغرقت الأرض بالمياه حتى رفعوا أثوابهم وحتى احتموا بالجدران والأبنية ، وانقشعت الغمة ، وارتفعت أكبر محنة حالكة أصابت المسلمين في زمن الخليفة الثاني .
تعالوا نتفكر ونتدبر :
يحدث هذا الابتلاء وتحدث هذه المحنة – رغم أن الخليفة يضرب به المثل في العدل والقوة والورع والتقوى ، والزمن زمن صحابة وتابعين ، وجيوش الإسلام قد انتصرت على الفرس والروم وتوسعت الفتوحات .
أين الخلل الذي استوجب نزول هذا البلاء الرهيب ؟
تعلمنا من قدر الله أن البلاء ينزل لأسباب منها :
1. أن يفتش الناس عن ذنوبهم التي لا يراها إلا الله عز وجل فيتوبوا .
2. أن يتذلل الناس إلى مولاهم سبحانه وتعالى ويلجأون إليه بالدعاء .
3. أن يستشعر الناس قيمة النعم التي نعيش فى ظلالها ولا نؤدي حق شكرها .
3. أن يتكافل الناس جميعاً الأغنياء والفقراء .
4. أن تتكافل أقطار الأمة الإسلامية .
5. أن ينكسر داخل العباد شعور الزهو والفخار من تتابع الانتصارات .
6. أن يأخذ الناس بالأسباب حتى يتغلبوا على هذه الأزمات .
7. أن تكون المحن كفارة لذنوب العباد .
8. أن يرفع الله تعالى درجات العباد في الآخرة بسبب ما أصابهم من هم وغم وحزن .
ولذلك أيها الأحباب :
نحن نعيش محنة هذا الانقلاب الدموي ونقدم الشهداء والضحايا وعلينا أن نفتش في داخلنا ونصلح أنفسنا ونرضى بقضاء الله .
ثم ننطلق إلى العمل ومقاومة الظلم والطغيان بعزيمة قوية ونفوس مطمئنة راضية .. اللهم ارفع عنا البلاء يا أرحم الراحمين .
الآراء