يحلم الإنسان بأمان لا قلق معه وصحة لا يصاحبها مرض وغنى لا يعقبه فقر وزوجة لا تكدر عليه حياته وتدور الصراعات في الدنيا شرقها وغربها من أجل تحقيق شئ من ذلك ومن نال نصيبا منه – ولو ضئيلا- اعتبر نفسه قد فاز فوزا عظيما. و يسأل عن أقرب المسالك لتحقيق شئ من هذه الأمنيات فيجاب بسخرية وربما بحكمة كل ذلك وزيادة تجده في الجنة وعن الجنة يقول ربنا في الحديث القدسي الذي يرويه الإمام البخاري في صحيحه يقول اللَّهُ:

"أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَؤُوا إِنْ شئْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ".

ولكل إنسان منزلة في الجنة بجسب عمله وهذه المنازل متفاوتة تفاوتا بعيدا ـ قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَيُونَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ.[ صحيح البخاري]

انظر إلى المسافة بين إنسان على الأرض ووكوكب في الأفق البعيد كم بينهما من ألوف الألوف من الكيلومترات، وقد ظن الصحابة رضي الله عنهم أن من يستحق الغرف هم الأنبياء وحدهم فأجابهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن هذه المنزلة يبلغها رجال في القمة العليا من الإيمان بالله وتصديق المرسلين. ومع تفاوت المنازل بين أهل الجنة إلا أنهم لا يحسد بعضهم بعضا فلكل منهم ما يشعره بأنه في فضل ونعمة من ربه وقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أدنى أهل الجنة منزلة وهو رجل مكث في النار حتى طهره الله تعالى من أعماله السيئة وقد طال مكثه حتى خرج الناس جميعا من كل الأمم وبقي هو قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

"إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يُقَالُ ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً".[ صحيح البخاري]

وعندما نستمع لكلمة الجنة يتطرق إلى الذهن ما لذّ وطاب من الأطعمة والألبسة والحور العين والقصور الضخمة والفراش الوثير والشراب اللذيذ وذلك حق فقد قال الله "وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ" [الزخرف: 71] والسؤال هو كل ما في الجنة متع حسية فحسب هل هناك متاع أعلى وأرقى من ذلك يروي الإمام البخاري في صحيحه عن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:

"إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا : يَا رَبِّ وَأَىُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".

"وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة: 72]

رضوان من الله أكبر وأعلى وأجل وأعظم من الجنات التي تحتها الأنهار ومن المساكن الطيبة التي في جنات عدن ومن الخلود الذي لا يعقبه فناء في هذا النعيم هذا ما أخبر به رسول الله عن رب العزة تبارك وتعالى ويخبرنا كذلك عن شعور المؤمنين في الجنة بنعمة يمنحها الله تعالى لهم في الحديث الذي يرويه الإمام مسلمفي صحيحه عن النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:

"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ – قَالَ – يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ – قَالَ – فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ".

النظر إلى وجه الى الرب تبارك وتعالى أحب إليهم من كل ما في الجنة وتسمع البعض مع هذا يقول إن الحديث عن الجنة لإلهاء الناس عنما يعانون وما يفتقدون من وسائل الحياة الكريمة أو لإلهاء الناس عن الآليات التي يتبعونها لكي يعيشوا حياة كريمة وكل ذلك وهم واهم أو حلم نائم جائع بسوق الخبز وليس هناك جنة ولا يحزنون.

وهذه الفكرة عن الجنة والجزاء فكرة قديمة قال أصحابها إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وظهر في العصر الحديث من يعلن أن الدين أفيون الشعوب وهؤلاء لا يعلمون شيئا عن الدين ولا عن الأفيون ولا عن الشعوب الدين الإسلامي يصبغ أتباعه الذين يفهمونه صبغة نفسية وعقلية تمكنهم من الحياة بالحكمة والعدل انظر إلى عمر ما كان شأنه قبل الإسلام كان راعيا للغنم ويملك قوة بدنية تمكنه من أذى المستضعفين من المؤمنين، فلما ألقى الله في قلبه الإسلام إذا به خلق آخر يدير إمبراطورية ضخمة فيها من مختلف الأجناس والثقافات ويحافظ عليها بل وتتوسع الفتوحات الإسلامية في عهده ما الذي مكّنه من ذلك هل هي الحكمة العربية التي تلقاها عن من سبقه من العرب؟!

هل هي المعلقات والقصائد التي تداولها العرب؟! إنه القرآن وتربية النبي صلى الله عليه وسلم له بالقرآن أما الأفيون فهو أحد المخدرات التي تذهب العقل والدين يعتبر العقل مناط التكليف فإذا سلب الله ما وهب سقط ماوجب والقرآن يخاطب أولي الألباب ويدعو إلى النظر والتأمل في الكون ويعتبر غياب العقل بكل ما يسكر ذنب عظيم أما الشعوب فقد فطرها الله على الدين فلا تستغني عنه هؤلاء يفرون من الحساب قال أحدهم أحب أن السمع الشيخ الفلاني فطرحه هادئ وعقلاني ولا يصرخ أثناء حديثه لكني أتضايق عندما يتكلم عن النار الحديث عن النار يؤلمه لأنه لم يقدم من العمل ما يؤمنه من عذاب النار الإيمان بالجزاء مرتبط بالإيمان بالإله وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عندما قَالَ:

"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" [ صحيح مسلم]

للجنة أهل ولها أصحاب حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال:

1-"وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِى قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ"[صحيح مسلم] أولهم رجل استرعاه الله رعية كبرت أو صغرت وهو يتوخى العدل فيهم وينفق مما أعطاه الله والتوفيق حليفه فيما يتخذ من قرارات لمنفعة العباد والبلاد والثاني رجل صاحب قلب يشعر بمن حوله قريبا أو غريبا وصاحب القلب الحي يستحق كل خير والثالث رجل لحظه من المال قليل وله عيال يطالبونه أن يكونوا كمن حولهم في الملبس والمسكن والمركب لكنه يؤثر حب الله على حب عياله فينفق عليهم من الحلال ولا يرضيهم ويسخط ربه.

2-ويحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السابقين الأولين من أهل الجنة فيقول: "هَلْ تَدْرُونَ مَنْ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلَقِ اللهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلَقِ اللهِ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ يُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لاَ يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً" [صحيح بن حبان] قوم تجدهم في الصفوف الأولى عند حدوث الخطر يقدمون ما لديهم ابتغاء مرضاة الله تبقى حاجاتهم في صدورهم إلى أن يقضيها ربهم في الجنة.

3- وختاما أقول: أعد قائمة بمن تحب وانظر في أعمالهم هل فيها ما يرضي الله تعالى واعلم أنك ستكون معهم حيثما ذهبوا فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".[صحيح البخاري]