لو قُدّر لرجل مسلم كان يُمضي رحلة استكشافية في القطب المتجمد الشمالي لقاء مجموعة بشرية تعيش في زوايا الثلج لم تصلها معرفة العالم، وبدأ إنسانها يستلهم مدلولات الفطرة في معيشته وفكره، ويتأمل سر خلقه وفسحة الكون من حوله فيشعر أن وراء خلقه موجداً، ولكنه لم يصل إلى أي دلائل أخرى تبعث في وجدانه قصة الوجود ورسالة الروح والاستخلاف معاً؛ فماذا سيقول له الدليل المرشد؟ وباسم أي مذهب سيحدثهم؟

ولو أن جماعة بلغتهم عن الإسلام رسالته الأولى ثم أمضوا حياتهم دون أي انتساب إلى مذهب أو جماعة، بل فطِنوا للفكرة الأولى ووصلهم من النص ما يكفي لوعي رسالة الأنبياء، ولم يتحولوا لمذاهب ولا لتكتلات دينية، ولم يقرؤوا صرعات الأفكار الدينية، وأمضوا حياتهم على ذلك حتى رحلة الآخرة.. فهل تُقبل منهم عبادتهم؟ وهل المذهب لازمٌ لتديّن الإنسان؟

إن المنتج الفكري من دلالات وعي العقل للنص، وإدارة فهمه مع سنن الله في كونه، فيه مدارات معرفة تجديدية، من أسرار حكمتها العظمى أن لكل جيلٍ في الإنسانية مساحة تطور فكري ومعرفي، يحتاج عبرها أن يُقيم ميزان إدراكه لرسالة الحياة والوجود، وكيف يُنقّل فكره وعمله واستخلافه لتحقيق مصداقية الروح المطمئنة بعبادة خالقها الموجِد، ويعلم أن البشرية سواسية في ميزانه، وأن العدالة شريعته للبشر وشركاء حياة الإنسان من زرع وجماد وحيوان؛ فالرفق والعدل والرحمة نواميس الشريعة الكبرى.

ولذلك فإن تجدد معالم الاجتهاد -في دورات فقه وفكر وتأمل- هي من طبيعة هذا العقل المتوقد، وحاجة ماسة له لاستنباط نظام قانوني ومسالك أخلاقية تتفق مع مراقبة الروح لربها، والإنصاف بين جموع الخلائق، فتنتظم رحلتهم في ذات مدلول الفطرة الكبرى، حياة استخلاف للنهضة لا لبطش السلطة، وروحا تعبر إلى ملكوت الخلود بأخلاقيات سامية لا صراعات مهلكة. تلك هي فلسفة الفكر الأول، ولكن اختبار الخالق جعل قرار الاختيار بين النجدين (الخير والشر) إلى هذا الإنسان ليحدد أينَ يسيّر سفينته في الحياة؟

ومن هنا تُفهم إيجابيا رسالة الاجتهاد والمذاهب الفكرية والتعبدية كمنهج تنوع اجتهادي يُفقه فيه النص، وهو إسلام واحد يجتمع فيه الأب الكبير آدم والخليل إبراهيم والمسيح والكليم موسى وخاتم النبيين عليهم السلام. إلا أن الله جعل في شرائعهم اختلاف تنوع للبيئات والمواسم، وطبائع الخلق التي جُبلت عليها معرفة ذلك الزمان، ومستوى إدراك العقل وقدرات صراعات التاريخ البشري ليُهدى الناس إلى الحق، لا ليفنوا أنفسهم أو ليقيموا حروبا مستعرة، الله جل في علاه تكفل بإخمادها دون فناء البشرية حتى يرث الأرض ومن عليها. وهنا يفهم قوله تعالى: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب".

فما دامت هناك مساحةٌ للتأويل فمردها إلى الله، الذي اقتضت حكمته وعدالته منح هذه المساحة من الاختلاف لتهيئة الحياة البشرية لأطوار الزمن. ومن هنا جاءت مساحة التنوع والاختلاف في فهم الدلالات في شريعة الإسلام الخاتم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي اتفقت كل أصولها مع أصول الأنبياء، وهو الأمرُ الطبيعي الواجب عقلا تحققه، وهنا مساحة الاختلاف المرغوب بل المطلوب إيجاباً للبشرية.

غير أن هناك نوعاً من الخلاف تُصنع به أودية سحيقة من الصراع، وتحوّر به الدعوة لرسالة السماء بأنها كتلة من مشاعر الغضب والانتقام والتصفية المذهبية ومحكمة تفتيش أولية، تُمطر هذا الباحث الجديد بكل عنت وجدل وتفصيل شرس عن مذهبها وصحته، فيما هذا المُسائِلُ عن إشراقة الحياة يبحث كيف يُكمل ركن فهمه لفطرة الله في جسده، كيف تلتقي الروح مع حراك جوارحه، مع نظرات العقل، فيُصبح مؤمنا مطمئنا، يُبحر في العالم الجديد الذي تصبح عليه إنسانيته.

هنا تبرز دلالة ذم هذا الاختلاف في الآية الكريمة، والعبرة كما يقول الأصوليون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ". فتحوّل الاختلاف إلى مادة صراع -لا اجتهاد تشريعي يلائم كل مرحلة- مفضٍ لتأسيس كيانات يتحول صراعها لتشيعها ولعصبيتها، لا لفهم مختلف تحتويه أصول الديانة في مقاصدها الكبرى، فيكون أداة هدم ومشروع نزاعٍ مهلك، ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أي مسؤولية.

ثم يتطور هذا الصراع أو يُنشّأ في مساحة نزاع شرس فينتهي إلى قالب مخالف بالكلية لرسالة الإسلام، أو يُنقض جانب مهم فيه لا يُحقق معنى العبودية الروحية وتكاملها الحقوقي في الاستخلاف لعمارة الأرض. وهنا لا نتحدث عن حركة المدافعة للأنفس الشريرة الظالمة، من القوى التي تهلك الحرث والنسل إلى أصغر سوء تتلبس به النفس البشرية ضد الخير في ذاتها أو ذات غيرها، فتلك مهمة الدفع الخيري للنزعة الشريرة حتى تقلع عن الأذية، أو تتحمل وزرها يوم العرض الأكبر إن عجزت قوة الخير في الدنيا عن ردعها.

لكننا نتحدث عن مذاهب لم تعد رسالة فقه تعبدي، وصعود إخلاقٍ روحي، أو منهج استنباط استخلافي لسعادة الإنسان المؤمن -ثم البشرية- ببيدر عدله وسلوكه، وإنما صارت مذهبا من هنا ومذهبا من هناك يستدعي صراعاً تاريخياً، يحوّل رسالة الكون إلى انتقام من ذات الأمة التي اشترك معها في شهادة التوحيد، أو جماعة مذهبية بات البحث لديها في تفصيل مقعّر من مصطلحات عقائد لم تكن واردةً في عهد الأنبياء ولا من ثوابت شريعتهم الأولى، فأقاموا عبرها محاكم تفتيش تتلصص على الناس وتفتنهم للولاء لمذهبهم باسم الإسلام الممتحن. ثم تحوّلت هذه المجموعة من الآراء في الاستنباط من هذا الفريق وذاك -والتي لم تكن مطلقا مدونة بنص عقائدي صريح- لتكون أداة شبيهة بسيف التلمود المحرّف، يُمتحن بها المسلمون وتُقام لهم محاكم تفتيش تسائلهم: أتؤمن بما يقوله علماؤنا وتعلن تكفيرك لمن لا يؤمن به، أم نعلنك زنديقا مرتدا نستبيح عرضك وإنسانيتك؟

إن هذا النوع -وإن استفحل في الأزمنة المعاصرة، ثم نُظمت له منظومات عنف من طرفين متعاكسين استثمرت أجواء القهر والحصار والروح الصليبية للغرب على حاضر العالم الإسلامي- ليس جديداً، وله إرث مروع في تاريخ المسلمين. يُراجع إرث المسلمين ويُنقد ليس لكونهم الأكثر فشلا في تاريخ الإنسانية، فهذه مقولة مغلوطة حين تفكك الحروب الدينية والبشرية في غيرهم، ومستوى العنف والتخلف في دورات العالم المختلفة، بل حين تُدرس مآلات عصر نهضة الآلة الغربي وماذا صنعت بالبشرية، وكيف تحولت أفكار تنميتها إلى حروب استعمار وإبادة؛ وإنما يُنقد التراث لخصوصية الرسالة الإسلامية فيما تبقى من رحلة الإنسانية، وضرورة تنقيتها مما نُحل عليها من آثام المسلمين.

إن خطاب العالم الجديد -بل الذات الإسلامية اليوم- بحاجة ماسة للعودة إلى فلسفة رسالة الأنبياء، وإسلامهم الجامع ومعرفة الأصول عبرهم، وإن الاستقلال عن المذاهب -التي تُنشأ كدين جديد يبدل به مفهوم الرسالات من هذه الجهة أو تلك- هو إحدى مهام هذا العصر للبلاغ الإسلامي، وإن بقيَ الناس على مدارسهم الفقهية والروحية فإن عليهم أن يحسنوا إدارة خلافهم لمصلحة إنسانيتهم. إن كل محاولة للنهضة بخطاب الفكر ستتعرض لمحاولات سحق من المذاهب المصنوعة والمسيّسة، والتي باتت اليوم جزءا من لعبة دولية محليّة صعبة، تُنشأ عصبيتها باسم طهرانياتها المزعومة أو الولاء المُفترى لميراث الأنبياء، حتى تحوّلت مصادر الدين إلى جغرافيا إقليمية أو نسب، وأُسقطت الرسالة باسم الثأر له.

هذه المذهبيات المتصارعة شنت حروبا كارثية على وحدة المسلمين وأخلاقياتهم، ثم فتحت الباب لعسكرة وطأفنة أرضهم، حتى وقعوا في الفتنة العمياء، وصادر الغرب قرارهم، وشُوهت رسالة إسلامهم الحقيقية. إن الذات الإنسانية موحدة في دعوتها لفهم البلاغ القرآني ونصوص الأنبياء الأصلية، التي لا تقتضي خروج الناس من مسالك روحية وفقهية وسعها إسلام الأنبياء، ولكنها تعيد جدولة عقلهم ووجدانهم الداخلي.

إن رسالة السماء لمجتمعات الأسرة الإنسانية ليست نصوصَ تهديدٍ عنيفٍ ضد المسلمين وغيرهم، ورثوها من شيوخهم ففنيت أجيال على كراهيتها، وإنما الحق في أصول الرسالة، فمن وافق نبضها وعدلها أدركته عناية السماء